بريد من قطاع 50 - محمد مظلوم

كَمَنْ يتعقـَّبُ آثار المَطر الذي
مشى تحته الرعاةُ،
أنا أكتبُ المشاغبات.
نكايةً بما اقترفـْتُ من محبـَّة
وندماً عَلَىْ كنايات محجوزة في المسـْتقـْبلِ،
أجرِّدُ النـِّسورَ من طيرانِها إلى ذكرياتي
كمَنْ يَضَعُ قفـْلاً عَلَىْ حياتِه ويهرب.
طبول التشابيه تثيرُ فجـْراً نائماً منذُ عشرة أيَّام،
نحاس أصواتِ يطرقُ الأبوابَ المحنـَّاة منذُ ثلاثة أيام،
وأبواقٌ ـ نحاسية أيضاً ـ تتشاجَرُ في ممرًَّات الفضاء
مع بيارقَ تخشـْخشُ رؤوسُ ألوانها.
وبقفـْزة واحدة،
كمن عضـَّه حلـمٌ من نومهِ
كان الصبيُّ يتخلـَّص من شبكة النعاس في سريره
ويتعقـَّبُ ـ حافياً ـ
روائحَ تبتعدُ في طرفِ الزُّقاق.
رُبَّمَاْ لهذا،
يَكْتَمِلُ حُلُمِيْ ـ دائماً ـ
وأنا أتمشـَّىْ حَاْفِياً
وبكامل ِ أناقتي في المدينة!
ولا ينتبهُ الناسُ لصرخاتي النائمة
وهي تناديني إلى السَّرير.
رُبَّمَاْ لهذا،
كلـَّما مسحـْتُ العرقَ عنْ وجهي
ابتعدْتُ أكثرَ خارجَ النهار.
أيقظوه،
فلا ينطقُ من نومٍ
وكلـِّموه،
فهْو لا يـُخْبرُ عن حَيَاْة.
أمامه صحْراء مقتولين،
وماؤه مختلٌّ
كأنه يتذكـَّر صورتَه.
ليتَه لي
هذا الذي ليسَ لأحد،
لأشاهدَ الغيابَ
ممهوراً بإعجابي.
أجراسُ ماءٍ
أم سماءٌ هدَّها الزلزالُ
أم صافرةُ أوبئةٍ،
هذه التي تحـْتضنـُني في المنام؟
ترْتَفعُ آلامي في هروبِها
كآبارٍ منـْزليَّة
يئنُّ طينـُها وحيداً آخر الليل.
المكان يستبـْدلُ حنجرتـَهُ
وأنا أسمعُ أنينَ ألعابٍ شعبية
وأنفاسَ درَّاجاتٍ مزركشة
تمضي لقتـلِ دروسِها خلفَ التلال.
ألغامٌ في النوم،
تتنفَّسُ قبْلَ أشجاري
وأحلامي تسـْعل في كلِّ اتجاه.
أنا منـْذ أن تهندَستْ جثـَّتي،
أمدُّ يديَّ بعلوِّهما،
مصفـِّفاً شعْرَ ملائكةٍ غرْقى،
تاركاً قدميَّ تخوضانِ في ملحِ الماضي.
يوميَّاً نلتمُّ،
كأنـَّنا وباءٌ قادمٌ من حدودٍ أخرى.
يومياً ننْقصُ في الأيام،
وأنا أجمعُ غروبَهُم
كما لو انَّ السَّماء تلتقطُ صورةً
لأرضِ معْركةٍ غادروها للتوِّ!
كنـَّا نتبوَّلُ عَلَىْ ظلال بعْضنا،
مشيِّدينَ مجـْداً من الكراهية،
وها بعدً أرضٍ مرَّ فوقها القطارُ،
ظلالنا جفـَّتْ تماماً.
ومجدُنا ما زال.
أيضاً كنـَّا نكتبُ عَلَىْ الأرْضِ أسماءنا
بمياهِ قضبانِنا الحارة.
من يدري
لعلـّنا ماء يهربُ من التسْمية؟
(الدشاديشُ) المخطَّطةُ،
تلـْمعُ إزاءَ منبِّهاتِ الشاحناتِ،
وأيدٍ تطشُّ الترابَ عَلَىْ دمٍ من إبهام قدمٍ مهشَّم…
الأرْضُ أيضاً مُصطكـَّةُ الأسنان.
( الدشاديشُ) ذاتـُها
تطْبخُ في قدورٍ سوداءَ،
لتفـْرَحَ
حتـَّى العاشرِ من الحزْنِ
عندما القدورُ ذاتها
تسْهرُ حتـَّى الفجْر
بالقمْح والخرْفان.
لمْ يتهدَّم أمام عينيَّ
تمثالُ النعاسِ،
فمنْ سأقاومُ بعدَ نهاري هذا؟
الألعابُ
لم نـُنجزْها إلى الآن،
علينا أن نغادرَ هذه اللعبة،
بلا مراهنات.
درَّاجاتٌ رجوليِّة تمرَّ بنا
إلى مواعيدَ خارجَ المدينة.
وبـما يشبهُ منافساتٍ مع الآلهة
نركضُ خلـْفها.
طرَفُ( الدشاديش) بين أسناننا
وأفخاذنا الملساءُ النحيفةُ
ترتجفُ
في كسل الوعورة.
نحتضنُ أعمدة الكهرباء
كصاعدي النخيل،
وبينَ أفخاذنا
يلمعُ ماءُ الشهْوة.
لسنا مسنينَ بما يكفي
لفقدانِ العظام في الظلام،
وأحدُنا يهربُ
طارقاُ عمودً الكهْرباء
بعظامٍ أخرى،
ملوِّحاً بعودةٍ إلى الحَيَاْةِ التي لم نجدْ.
هل تركـْنا الأبطالَ
وحيدينَ في السينما
وعدنا إلى بيوتنا
منـْشغلينَ
بصنعِ أسلحة وأعداء
ننافسُهم في الشوارع
والذكريات.
وهؤلاء أيضاً
رجعوا
إلى تركاتهم
مقوِّسينَ أيَّامَهم
ليمرُّوا
من شاشة الحروب.
أكنـَّا جميعاً شعراءَ،
مفرداتنا الأشياء التي
لا تتشكـَّلُ إلاَّ بالخوفِ
أم ترانا
صيادونَ خائبون
يعودونَ إلى منازلِهم
بالشهْرة
وأحاديثَ عن المشاهدات؟
منْ شرفةٍ أخيرةٍ،
لتوديع زورقٍ مليءٍ بالأقليـِّات
صرخـْتُ:
هذا أنا المتثائبُ خلـْفَ جسدهِ.
وهنا تقريباً
دفنتُ رأسي بينَ ركبتيَّ
متورِّطاً برحلةٍ
مع قياصرة
بأكاليلَ مسمومة.
بكيتُ تقريباً،
بلا أصدقاء،
مع أن الزوْرقَ
لم يتعقـَّب مجرى النـَّهْر، فقط،
أنا أصغر الغرباء عَلَىْ اليابسة.
الماضي ثورٌ في شاحنة
نَسيَ عينيه في مكان آخر
وها هو مائلٌ كغيمة في شاحنة!
يجدرُ بي أن أحييه
كأننا نرى بعضنا من خُرمِ إبرة.