هاشم الوترى - محمد مهدي الجواهري

مجَّدْتُ فيكَ مَشاعِراً ومَواهبا
وقضيْتُ فَرضاً للنوابغِ واجِبا

بالمُبدعينَ " الخالقينَ " تنوَّرَتْ
شتَّى عوالمَ كُنَّ قبلُ خرائبا

شرفاً " عميدَ الدارِ " عليا رُتبةٍ
بُوِّئْتَها في الخالدين مراتبا

جازَتْكَ عَن تَعَبِ الفؤادِ ، فلم يكن
تعبُ الدماغ يَهُمُّ شهماً ناصبا

أعْطَتْكَها كفٌّ تضمُّ نقائصاً
تعيا العقولُ بحلِّها . وغرائبا

مُدَّتْ لرفعِ الأنضلينَ مَكانةً
وهوتْ لصفعِ الأعدلينَ مَطالبا !

ومضَتْ تُحرِّرُ ألفَ ألفِ مقالةٍ
في كيفَ يحترمونَ جيلاً واثبا

في حين تُرهِقُ بالتعنّتِ شاعراً
يَهدي مَواطنَهُ ، وتُزِهق كاتبا

" التَيْمِسيّونَ ! " الَّذين تناهبوا
هذي البلاد حبائباً وأقاربا

والمغدِقونَ على " البياضِ " نعيمَهُمْ
حَضْنَ الطيورِ الرائماتِ زواغبا

يَستصرخونَ على الشّعُوب لُصوصَها
في حينَ يَحتجزونَ لِصّاً ساربا

ويُجَنِّبونَ الكلب وَخزةَ واخزٍ
ويجَهِّزُونَ على الجُموعِ معاطِبا

أُلاءِ " هاشمُ " مَنْ أروكَ بساعةٍ
يصحو الضميرُ بها ! ضميراً ثائبا

فاحمَدْهُمُ أن قد أقاموا جانباً
واذمُمْهُمُ أن قد أمالوا جانبا

وتحرَّسَّنْ أنْ يقتضوكَ ثوابَها !
وتوقَّ هذا " الصيرفيَّ " الحاسبا

لله درُّكَ أيُّ آسٍ مْنقذٍ
يُزجي إلى الداءِ الدواءَ كتائبا

سبعونَ عاماً جُلتَ في جَنَباتها
تبكي حريباً أو تُسامرُ واصبا

متحدَّياً حُكمَ الطباعَ ! ودافعاً
غَضَبَ السَّماءِ وللقضاءِ مُغالِبا!

تتلمَّسُ " النَّبَضاتِ " تجري إثرّها
خلَجاتُ وجهِكَ راغباً أو راهبا

ومُشارِفٍ ! نَسَجَ الهَلاكُ ثيابَهُ
ألْبْستَهُ ثوبَ الحياةِ مُجاذبا

ومكابدٍ كَرْبَ المماتِ شركتَهُ
- إذْ لم تَحِدْ منجىً – عناءاً كارِبا

ومحشَرجِ وقفَ الحِمامُ ببابهِ
فدفعتَهُ عنه فزُحزِحَ خائبا

كم رُحْتَ تُطلِعُ من نجومٍ تختفي
فينا وكم أعْلَيْتَ نجماً ثاقبا

هذا الشَّبابُ ومِن سَناكَ رفيفُهُ
مجدُ البلادِ بهِ يرفُّ ذوائبا

هذا الغِراسُ – وملُْ عينِكَ قرّةٌ
أنَّا قطفنا مِن جَناهُ أطايبا

هذا المَعينُ ، وقد أسلتَ نَميرَهُ
وجهُ الحياةِ به سيُصبْحُ عاشبا

هذي الاكُفُّ على الصدورِ نوازِلاً
مثلُ الغيوثِ على الزُّروغِ سواكبا

أوقفتَ للصَّرعى نهاراً دائبا
وسهِرْتَ ليلاً " نابِغيّاً " ناصبا

وحضَنْتَ هاتيكَ الأسِرَّةَ فوقَها
أُسْدٌ مُضَرَّجَةٌ تلوبُ لواغِبا

أرَجٌ من الذكرى يلفَّكَ عِطْرُهُ
ويَزيدُ جانبكَ المُوطَّد جانبا

ولأنتَ صُنْتَ الدارَ يومَ أباحها
باغٍ يُنازلُ في الكريهةِ طالبا

الْغَيُّ يُنْجِدُ بالرَصاصُ مُزَمْجِراً
والرّشدَ يَنجِدُ بالحجارةِ حاصبا

وَلأنتَ أثخَنْتَ الفؤادَ من الأسى
للمثُخَنينَ مِن الجراحِ تعاقُبا

أعراسُ مملكةٍ تُزَفُّ لمجدِها
غُررُ الشَّبابِ إلى التُرابِ كواكبا

الحْاضنينَ جِراحَهَمْ وكأنَّهمْ
يتَحَضَّنونَ خرائداً وكواعبا

والصابرينَ الواهبينَ نُفوسَهُمْ
والمُخجِلينَ بها الكريمَ الواهبا

غُرَفُ الجنانِ تضوَعَتْ جنَباتُها
بصديدِ هاتيكَ الجراح لواهبا

وبحَشْرجاتِ الذاهبينَ مُثيرةً
للقادمينَ مواكباً فمواكبا

غادي الحيا تلك القبورَ وإنْ غدت
بالنَّاضحاتِ من الدّماءِ عواشبا

وتعهَّد الكَفَنَ الخصيبَ بمثلهِ
وطنٌ سيَبْعَثُ كلَّ يومٍ خاضبا

بغدادُ كانَ المجدُ عندَكِ قَيْنَةً
تلهو ، وعُوداً يَستحثُّ الضَّاربا

وزِقاقَ خَمْرٍ تستَجِدُّ مَساحبا
وهَشيمَ رَيْحانِ يُذَرَّى جانبا

والجسرُ تمنحُهُ العيونُ من المَها
في الناسِبينَ وشائجاً ومناسِبا

الحَمدُ للتأريخِ حينَ تحوَّلَتْ
تلكَ المَرافِهُ فاستَحَلْنَ مَتاعبا

الشِّعْرُ أصبحَ وهو لُعْبةُ لاعبٍ
إنْ لمَ يَسِلْ ضَرَماً وجَمْراً لاهبا

والكأسُ عادتْ كأسَ موتٍ ينتشي
زاهي الشبابِ بها ، ويمسحُ شاربا!

والجسرُ يفخرُ أنَّ فوقَ أديمهِ
جثثَ الضَّحايا قد تَرَكْنَ مساحبا!

وعلى بريقِ الموتُ رُحْنَ سوافراً
بيضٌ كواعبُ ، يندفعنَ عصائبا

حدِّثْ عميدَ الدارِ كيفِ تبدَّلَت
بُؤَراً ، قِبابٌ كُنَّ أمسِ مَحارِبا

كيف أستحالَ المجدُ عاراً يتَّقَى
والمكرُماتُ من الرّجالِ مَعايبا

ولم استباحَ " الوغدُ " حُرمةَ من سَقى
هذي الديارَ دماً زكِيّاً سارِبا

إيهٍ " عميدَ الدار " كلُّ لئيمةٍ
لابُدَّ – واجدةٌ لئيماً صاحبا

ولكلِّ " فاحشةِ " المَتاع دَميمةٍ
سُوقٌ تُتيحُ لها دَميماً راغبا

ولقد رأى المستعمِرونَ فرائساً
منَّا ، وألفَوْا كلبَ صيدٍ سائبا!

فتعهَّدوهُ ، فراحَ طوعَ بَنانِهمْ
يَبْرُونَ أنياباً له ومَخالبا

أعَرَفتَ مملكةً يُباحُ " شهيدُها "
للخائنينَ الخادمينَ أجانبا

مستأجَرِينَ يُخرِّبونَ دِيارَهُمْ
ويُكافئونَ على الخرابِ رواتبا

مُتَنمّرينَ يُنَصّبونَ صُدورهُمْ
مِثْلَ السّباعِ ضَراوةً وتَكالُباً

حتى إذا جَدَّتْ وغىً وتضرَّمَتْ
نارٌ تلُفُّ أباعِداً وأقارِبا

لَزِموا جُحورَهُمُ وطارَ حليمُهُمْ
ذُعْراً ، وبُدِّلَتِ الأسودُ أرانبا

إيهٍ " عميدَ الدار " ! شكوى صاحبٍ
طفَحَتْ لواعجُهُ فناجى صاحبا

خُبِّرْتُ أنَّكَ لستَ تبرحُ سائلاً
عنّي ، تُناشدُ ذاهباً ، أو آيِبا

وتقولُ كيفَ يَظَلُّ " نجم " ساطعٌ
ملءُ العيونِ ، عن المحافل غائبا

الآنَ أُنبيكَ اليقينَ كما جلا
وضَحُ " الصَّباح " عن العيون غياهبا

فلقد سَكَتُّ مخاطِباً إذ لم أجِدْ
مَن يستحقُ صدى الشكاةِ مُخاطَباً

أُنبيكَ عن شرِّ الطّغامِ مَفاجراً
ومَفاخراً ، ومساعياً ومكاسبا

الشَّاربينَ دمَ الشَّبابِ لأنَّهُ
لو نالَ من دَمِهِمْ لكانَ الشَّاربا

والحاقدينَ على البلادِ لأنَّها
حقَرَتْهم حَقْرَ السَّليبِ السَّالبا

ولأنَّها أبداً تدوسُ أفاعياً
منهمْ تَمُجُ سمومَها .. وعقاربا

شَلَّتْ يدُ المستعمرينَ وفرضُها
هذي العُلوقَ على الدّماءِ ضرائبا

ألقى إليهمْ وِزْرَهُ فتحمَّلوا
أثقالَهُ حَمْلَ " الثيّابِ " مشاجبا

واذابَهُمْ في " المُوبقاتِ " فأصبحوا
منها فُجوراً في فجورٍ ذائباً

يتَمَهَّلُ الباغي عواقبَ بَغْيِهِ
وتراهُمُ يَستعجلونَ عواقبا

حتى كأنَّ مصايراً محتومةً
سُوداً تُنيلُهُمُ مُنىً ورَغائبا

قد قلتُ لِلشَّاكينَ أنَّ " عصابةً "
غصَبَتْ حقوقَ الأكثرينَ تَلاعُبا:

ليتَ " المواليَ " يغصبونَ بأمرِهِمْ
بل ليتَهم يترَسَّمونَ " الغاصبا "

فيُهادِنون شهامةً ورجولةً
ويُحاربونَ " عقائداً " ! ومذاهبا

أُنيبكَ عن شرِّ الطّغام نكايةً
بالمؤثرينَ ضميرَهمْ والواجبا

لقَدِ ابتُلُوا بي صاعقاً مُتَلهِّباً
وَقَد ابتُلِيتُ بهمْ جَهاماً كاذبا

حشَدوا عليَّ المُغرِياتِ مُسيلةً
صغراً لُعابُ الأرذلينَ رغائبا

بالكأسِ يَقْرَعُها نديمٌ مالثاً
بالوعدِ منها الحافَتَيْنَ وقاطبا

وبتلكُمُ الخَلَواتِ تُمْسَخُ عندَها
تُلْعُ الرِّقابِ من الظّباءِ ثعالبا!!

وبأنْ أروحَ ضحىً وزيراً مثلَما
أصبحتُ عن أمْرٍ بليلٍ نائبا

ظنّاً بأنَّ يدي تُمَدُّ لتشتري
سقطَ المَّتاع ، وأنْ أبيعَ مواهبا

وبأنْ يروحَ وراءَ ظهريَ موطنٌ
أسمنتُ نحراً عندهَ وترائبا

حتى إذا عجَموا قناةً مُرَّةً
شوكاءَ ، تُدمي مَن أتاها حاطبا

واستيأسوُا منها ، ومن مُتخشِّبٍ
عَنتَاً كصِلِّ الرّملِ يَنْفُخ غاضبا

حُرّس يُحاسِبُ نفسَهُ أنْ تَرْعَوي
حتَّى يروحَ لمنْ سواه محاسِبا

ويحوزَ مدحَ الأكثرينَ مَفاخراً
ويحوزَ ذمَّ الأكثرينَ مثالبا !!

حتى إذا الجُنْديُّ شدَّ حِزامَهُ
ورأى الفضيلةً أنْ يظْلَّ مُحاربا

حَشدوا عليه الجُوعَ يَنْشِبُ نابَهُ
في جلدِ " أرقطِ " لا يُبالي ناشبا !

وعلى شُبولِ اللَّيثِ خرقُ نعالِهم!
أزكى من المُترهِّلين حقائبا

يتساءلونَ أينزِلونَ بلادَهم ؟
أمْ يقطعونَ فدافِداً وسباسبا؟

إنْ يعصِرِ المتحكِّمونَ دماءَهم
أو يغتدوا صُفْرَ الوجوه شواحبا

فالأرضُ تشهدُ أنَّها خُضِبَتْ دماً
منّي ، وكان أخو النعيم الخاضبا

ماذا يضرُّ الجوعُ ؟ مجدٌ شامخٌ
أنّي أظَلُّ مع الرعيَّة ساغبا

أنّي أظَلُّ مع الرعيَةِ مُرْهَقاً
أنّي أظَلُّ مع الرعيَّةِ لاغبا

يتبجَّحُونَ بأنَّ موجاً طاغياً
سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا

كَذِبوا فملءُ فمِ الزّمان قصائدي
أبداً تجوبُ مَشارقاً ومغاربا

تستَلُّ من أظفارِهم وتحطُّ من
أقدارِهمْ ، وتثلُّ مجداً كاذباً

أنا حتفُهم ألِجُ البيوتَ عليهم ُ
أُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا

خسئوا : فَلْمْ تَزَلِ الرّجولةُ حُرَّةً
تأبى لها غيرَ الأمائِلِ خاطبا

والأمثلونَ همُ السَّوادُ ، فديتُهمْ
بالأرذلينَ من الشُراةِ مَناصبا

بمُمَلِّكينَ الأجنبيَّ نفوسَهُمْ
ومُصَعِّدينَ على الجُموعِ مَناكبا

أعلِمتَ " هاشمُ " أيُّ وَقْدٍ جاحمٍ
هذا الأديمُ تَراهُ نِضواً شاحبا ؟

أنا ذا أمامَكَ ماثلاً متَجبِّراً
أطأ الطُغاة بشسعِ نعليَ عازبا

وأمُطُّ من شفتيَّ هُزءاً أنْ أرى
عُفْرَ الجباهِ على الحياةِ تكالُبا

أرثي لحالِ مزخرَفينَ حَمائلاً
في حينَ هُمْ مُتَكَهِّمونَ مَضاربا

للهِ درُّ أبٍ يراني شاخصاً
للهاجراتِ ، لحُرّش وَجْهيَ ناصبا

أتبرَّضُ الماء الزُّلالَ . وغُنيتي
كِسَرُ الرَّغيفِ مَطاعماً ومَشاربا

أوْصى الظِّلالَ الخافقاتِ نسائماً
ألاَّ تُبرِّدَ من شَذاتي لاهبا

ودعا ظلامَ اللَّيلِ أنْ يختطَّ لي
بينَ النجومِ اللامعاتِ مَضاربا

ونهى طُيوفَ المُغرياتِ عرائساً
عنْ أنْ يعودَ لها كرايَ ملاعبا

لستُ الذي يُعطي الزمانَ قيادَه
ويروحُ عن نهجٍ تنهَّجَ ناكبا

آليتُ أقْتَحمَ الطُغاةَ مُصَرِّحاً
إذ لم أُعَوَّدْ أنْ أكونَ الرّائبا

وغرَسْتُ رجلي في سعير عَذابِهِمْ
وثَبَتُّ حيثُ أرى الدعيَّ الهاربا

وتركتُ للمشتفِّ من أسآرِهِمْ
أن يستمنَّ على الضّروعِ الحالبا

ولبينَ بينَ منافقِ متربِّصٍ
رعيَ الظروف ! مُواكباً ومُجانبا

يلِغُ الدّماءَ مع الوحوشِ نهارَه
ويعودُ في اللِّيل ! التَّقيَّ الراهبا

وتُسِيلُ أطماعُ الحياةِ لُعابَهُ
وتُشِبُّ منه سنامَهُ والغارِبا

عاشَ الحياةَ يصيدُ في مُتكدِّرٍ
منها ، ويخبِطُ في دُجاها حاطبا

حتى إذا زوَتِ المطامِعُ وجهَها
عنه ، وقطَّبَتِ اللُبانةُ حاجبا

ألقى بقارعةِ الطريقِ رداءَه
يَهدي المُضِلِّينَ الطريقَ اللاحِبا

خطَّانِ ما افترقا ، فامَّا خطَّةٌ
يلقى الكميُّ بها الطُغاة مُناصبا

الجوعُ يَرْصُدها .. وإمَّا حِطَّةٌ
تجترُّ منها طاعِماً أو شاربا

لابُدَّ " هاشمُ " والزَّمانُ كما ترى
يُجري مع الصَّفْوِ الزُّلالِ شوائبا

والفجرُ ينصُرُ لا محالةَ " ديكَهُ "
ويُطيرُ من ليلٍ " غراباً " ناعبا !

والأرضُ تَعْمُرُ بالشّعوبِ . فلن ترى
بُوماً مَشوماً يَستطيبُ خرائبا

والحالِمونَ سيَفْقَهون إذا انجلَتْ
هذي الطّيوفُ خوادعاً وكواذباً

لابُدَّ عائدةٌ إلى عُشَّاقِها
تلكَ العهودُ وإنْ حُسِبنَ ذواهبا