بطاقة للسيدة المَجَريّة.. - معد الجبوري

ها أَنَذَا‏
-وَوَمِيضُ الدَهْشَةِ يخطفُ عَيْنَيَّ-‏
طَلِيقٌ، كالمِترُو في آخر ساعات الليل،‏
ومسكونٌ بالجوعِ الوَحْشِيْ..‏
خطوي يَسْتَسْلِمُ للموج‏
وَوَجهِي عَارٍ،‏
عَنْ آخرِ ثَوْبٍ مِنْ أَثوابِ الخَجَلِ الشَّرْقِيْ..‏
مَاذا أَتَوَقَّعُ؟!‏
مَسْمُوحٌ لِعُيوني،‏
أَنْ تَقْتَنِصَ اللحَظَاتِ الأُولَى‏
ولِوَجهِي،‏
أَنْ يَأْخُذَ شَكْلَ الأُفْقِ،‏
وبُعْدَ الأُفْقِ،‏
وألوانَ الأُفْقِ،‏
وِمَسْمُوحٌ لِي،‏
أَنْ أَصْهَلَ في أَيِّ مَكَانٍ،‏
مثلَ حِصَانٍ مَجَرِيْ..‏
***‏
"بُودَابِسْتُ" امَرأَةٌ،‏
تُولَدُ مِنْ زَبَدِ الدَّانُوبِ الأَزْرَقْ..‏
"بُودَابِسْتُ" امَرأَةٌ،‏
تَلْتَفُّ على جَسَدِي،‏
تدعوني للرقصِ،‏
تُخَاصِرُني في الحاناتِ،‏
فَأَغْرَقْ..‏
***‏
ها أَنَذَا،‏
مُسْتَلْقٍ فوقَ الأَمْوَاج،‏
أمامي، تَتَدَاخَلُ أَقْوَاسُ الأَلْوَانِ،‏
وَحَوْلِي تَتَنَاثَرُ أَوْرَاقُ الحُلم،‏
وَمِنْ بينِ قِلاَعِ المَجَرِ،‏
المُلْتَفَّةِ حَوْلَ الدَّانُوب،‏
تَجِيءُ امَرأَةٌ،‏
لا وَقْتَ لَدَيْهَا للحُزْنِ،‏
امَرأَةٌ تًدْعَى: مَارْتَا‏
"مارتا سَيِّدَةٌ،‏
يُمْكِنُ أَنْ تَخْتَصِرَ العالَمَ في عَيْنَيْهَا..‏
يُمْكِنُ أَنْ تَتَّحِدَ الأَشْيَاءُ المَمْنُوعَةُ،‏
بينَ شُقُوقِ يَدِي،‏
وَنُعُومَةِ كَفَّيْهَا"..‏
مارتَا تَخْطفُني مِنْ أَقْنِعَةِ الصمتِ.‏
وَتَصْعَدُ بِي،‏
تهبطُ بِي،‏
مِنْ سَفْحِ الجبلِ الأَثَريِّ،‏
"انَتَشِليني، أَيَّتُها الطِفْلَةُ،‏
مِنْ قَفَصِ الشَّرْقِ،‏
احْتَرِقي في جَسَدِي،‏
كالخَمْرَةِ،‏
ضُمِّيني للأَلَقِ المتوهجِ،‏
في عَيْنَيكِ"‏
-لماذا أَنْتَ حَزِينٌ؟‏
-سَيِّدتي،‏
مَنْ يَرحل في عَيْنَيكِ الوادِعَتَين،‏
لماذا يحزن؟‏
"آهِ،‏
لماذا لا أَمْلِكُ‏
أَنْ أُخفي هذا الوَشْمَ الشَّرْقيَّ،‏
لماذا؟!...‏
لا أفهمُ سَيِّدتي"‏
***‏
الوقتُ مَسَاءْ..‏
الأُفْقُ رَصَاصِيُّ،‏
وشوارِعُ بُودَابِسْتَ،‏
وُجوهٌ غامِضَةٌ،‏
والأَشْيَاءْ‏
غَابَاتٌ مَسْحُورَه..‏
الوَقْتُ مَسَاءْ‏
جَسَدِي الصَّحْراء،‏
وَوَجْهُ السَيِّدَةِ المَجَرِيّةِ نَافُورَه..‏
***‏
السَيِّدَةُ المَجَرِيَّةُ،‏
تدخُلُ بِي أَقْرَبَ حَانٍ‏
مُنْفَتحٍ للموج،‏
الخَمْرَةُ تَصْعَدُ،‏
والرَّقْصُ جُنُونيٌّ،‏
"للرَّقْصِ طُقُوسٌ،‏
أَتَنَفَّسُ فيها رائِحَةَ السرِّ،‏
وَأَقْرأُ عَيْنَيْ مارتا،‏
واللُّغَةَ المَجَرِيَّةَ"،‏
فَلْنَرْقُصْ حتى نَتَوَحَّدَ،‏
حَتَّى نَتَشَظَّى‏
-هَلْ أَنْتَ حَزِينٌ؟‏
"آهِ، متى تَفْهَمُ سَيِّدَتي،‏
أَنَّ الحُزْنَ هويَّةُ وَجْهي العربيّ؟!."‏
-حَزِينٌ؟!.. أَبَداً سَيِّدَتي‏
فَلْنَرْقُصْ،‏
هذي آخِرُ سَاعَاتِ الليل،‏
دَقَائِقَ،‏
ثُمَّ نُفيق،‏
فَيَخْطفُنا المِتْرو،‏
وَنَغيبْ..‏
***‏
الوَقْتُ مَسَاءْ..‏
الدَّرْبُ جوازُ رَحِيلٍ،‏
والأرضُ حَقِيبَهْ..‏
وَضَبَابٌ كُلُّ الأَشْيَاءْ‏
هَلْ يُمْكِنُ،‏
أن تَبْقَى بينَ يَدَيَّ الكَأْسُ،‏
بِدُونِ ضريبَهْ؟‏
***‏
كانَ قِطارُ الليلِ،‏
النازِلُ مِنْ "برلين"،‏
رَصِبفاً للعُشَّاق،‏
وآخرَ وَمْضَةِ حُلمٍ.‏
في عَيْنَيَّ‏
-وداعاً مارتَا‏
"أَنْظُرُ.. لا أَنْظُرُ،‏
لا أَنْظُرُ، أَنْظُرُ..."‏
-هل تكتبُ شَيْئاً للذِّكْرَى؟‏
"ماذا أكتبُ سَيِّدَتي؟‏
هل يَكْفِي أَنْ أَنْقشَ حَرْفاً عَرَبيّاً،‏
في دَفْتَرِكِ الوَرْدِيّ؟،"‏
-وداعاً مارتا‏
***‏
مَارْتَا،‏
أُغْنِيَةٌ تَرْحَلُ في صَدْرِي،‏
للشَّرْقِ،‏
وَوَجْهٌ، أْلَمحُهُ‏
مِنْ نَافِذَةٍ في صَدْرِ قِطَارْ..‏
مارتا،‏
عصفورٌ حَطَّ على كَفيَّ،‏
ذاتَ مَسَاءْ..‏
حَاوَرَني،‏
عَلَّمَنِي لُغَةَ العِشْقِ،‏
وَطَارْ..‏