مُكَابَدات أَفريقيّه.. - معد الجبوري

بَحَّار..‏
بَحَّارٌ هَرِمٌ،‏
مُنْذُ عُصورٍ يَرْحَلُ،‏
وهو يُفَتِّشُ عَنْ لُؤْلُؤَةٍ،‏
تَتَخَلَّقُ في أَرضٍ واعِدَةٍ مَوْعُودَه..‏
قالَ:‏
خُذوا الحِكْمَةَ عَنِّي،‏
إِنَّ الإبْحارَ،‏
هو اللؤْلُؤَةُ المَفْقُودَه..‏
ورائي.. ورائي‏
رِيشٌ يَتَسَاقَطُ،‏
فوقَ الأَحْرَاشِ،‏
دمٌ يَقْطُرُ مِنْ غُصْنٍ،‏
طَبْلٌ مَثْقُوبٌ يَتَدَحْرَجُ‏
قالَ كَنَارٌ مَذعُورٌ،‏
وهو يُودِّعُ غابَتَهُ:‏
-مَنْ قَطَعَ الكَفَّ المشدودَةَ للطبلِ،‏
وَمَنْ ذَبَحَ البُلبُلَ،‏
في الوَكْرِ الآمِنِ،‏
والقِرْدَ المَرِحَ،‏
المُتَدَلّيَ مِنْ فَوقِ شُجَيرَةِ بَابَايْ؟..‏
حنجرةٌ في صُندوقٍ،‏
رَأْسٌ يَصرخُ في بئرٍ مهجور‏
-مَنْ دَقَّ المِسْمَارَ بحنجرتي‏
مَن حَفَرَ البئرَ لرأسي؟‏
قالَ القاَدِمُ للغابةِ،‏
وهو يَرَى،‏
ما ليسَ يراهُ سِوَاه...‏
-أَيْنَ تَحطُّ،‏
فَثَمَّةَ صَيَّادٌ يَتَرَبَّصُ،‏
عُدْ لِجمُوعِ الطير،‏
وحَاوِلْ أَنْ تُوقِعَ بالصيَّاد،‏
يقولُ كَنَارِ،‏
عادَ، ليَبْنِي عُشَّاً آخر..‏
ويقولُ القادِمُ للغابةِ:‏
-لَسْتُ بِآخر مَنْ يَحْتجُّ،‏
وللأَدْغَالِ طَريقٌ آخر،‏
يَقْتَنِصُ الصَيَّادِينَ،‏
ويومٌ، فيهِ يُضيءُ الدَّم‏
لكنْ...‏
ما هذا النَّاطُورُ الوَقِحُ،‏
الراكِضُ خَلْفِي،‏
مِنْ عَصْرِ الصحراء،‏
إلى عَصْرِ الغابةِ،‏
والبحر؟؟..‏
صورة..‏
بيتٌ عِنْدَ البحرِ،‏
تُظَلِّلُهُ سَبْعُ شُجَيْرَاتْ..‏
فيهِ سَبْعُ عَذارى،‏
يَحْمِلْنَ أَبارِيقَ الخَمْرَةِ والعِطْرِ،‏
وَيَرْقَبْنَ خَطىً تخفقُ،‏
حيثُ العُشْبُ،‏
يُعَرِّشُ فَوْقَ العَتَبَاتْ..‏
لَوْ أَنَّ فَتىً مثلَكَ،‏
مِنْ خَلْفِ البحرِ أَتَى‏
وَرَأَى سَبْعَةَ أَكْوَابٍ تَسْقِيهِ،‏
وَسَبْعةَ أبوابٍ تُؤْويهِ،‏
أَيَدْخُلُ،‏
أَمْ يَقْعُدُ في الظِلِّ،‏
وَيَتْلُو الصَّلَوَاتْ؟!‏
خطوة أخرى..‏
بينَ اليَقْظَةِ والنوم،‏
تَرَاءى لِي،‏
أَني أتبَعُ نجماً مجهولاً،‏
وَأَتاني صوتٌ،‏
قالَ:‏
"اطَلَعْ مِنْ هَذا الوادِي‏
أَوَ لَمْ تَكُنِ الأَرضُ بواسِعَةٍ،‏
فتهاجر فيها؟"...‏
وَبِطَرْفَةِ عَيْنٍ،‏
أَبْصَرْتُ الأَشياءَ أَمَامي،‏
تُمْسَخُ رَمْلاً‏
وأَنا في الرَّملِ أَغُورُ،‏
وجَمْعُ عَجَائزَ من حولي،‏
يتغامَزْنَ، وَيَضْحَكْنَ،‏
وأَبْصَرْتُ حِبَالاً، في الريحِ تطيحُ،‏
وَتَلْتَفُّ على قَدَمَيَّ،‏
سأطلعُ -قُلْتُ-‏
تَعَلَّقْتُ بأغصانٍ،‏
كانت تُورِقُ بينَ يَدَيَّ،‏
فلاَحَتْ لِي خَلْفَ الوادي،‏
أرضٌ تتلألأُ:‏
حَقْلٌ يَمْتَدُّ، وَخَلْقٌ يَنْتَشِرُونْ..‏
وبِلادٌ يَسْكُنُها أَطْفَالٌ،‏
مثل طيورٍ بيضٍ‏
تحملُ أغْصَانَ الزيتونْ..‏
قُلْتُ لنفسِي:‏
سَأَرى،‏
اِنْ كُنتُ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ أطلعُ،‏
أَيْنَ أكونْ..‏
مَلِكُ الغَاب‏
هُوَ ذا الغابُ الموعودُ،‏
فَخُذْ ذاكَ الطبلَ،‏
اقْرَعْهُ،‏
وَأَطْلِقْ صَرْخَتَكَ الوَحْشِيَّةَ،‏
قُلْ: إِني الملِكُ الضِلِّيلُ العائِدُ،‏
خُذْ تلكَ الحَسْنَاءَ السوداءَ القرويّةَ،‏
فاجِئْهَا، ‏
وارقُصْ حتى الهَذَيانْ‏
هَلْ يَتَراءَى لكَ أنكَ تركُضُ،‏
والأرضُ أمامَكَ تَنْأَى‏
أترى الطبلَ يَفرُّ،‏
الحسناءَ القرويةّ تَمْرُقُ،‏
مِنْ بينِ يَدَيْكَ؟!‏
إذَنْ،‏
خُذْ هذا الشُرْطيَّ المُتَرَبِّعَ في رَأْسِكَ،‏
واذبَحْهُ الآنْ...‏
تعال...‏
أَجْنِحَةٌ،‏
تخفقُ في أفقٍ نَاءٍ،‏
تِلْكَ بلادٌ أُخْرَى،‏
لَمْ تَبْدَأْ بَعْدُ،‏
تعالَ نُعَانِقْها...‏
نَقْرُ درابِكَ يَنْدَاحُ هناك،‏
ويَخْفُتُ‏
تِلْكَ قُرىً ضائِعَةٌ في الغاباتِ،‏
تَعَالَ نُفَاجِئْهَا....‏
أوراقٌ تَرْكُدُ في القاعِ،‏
الليلةِ تَطْفُو‏
تِلْكَ بَقَيَّةُ ذِكرَى،‏
فتعالَ نُحاوِرْها...‏
بِدَاية‏
قُلْتُ:‏
وأَيْنَ يحلُّ غريبٌ،‏
فالغُرَباءُ أَحِبَّتُهُ،‏
وحَلَلْتُ بأرضٍ،‏
صاحبتُ بِها‏
صَبَّاغَ الأحْذِيةِ،‏
الرسَّامَ المُتَجوِّلَ،‏
بائِعَةَ الصَّدَفِ البَحْرِيْ...‏
ومَضَى يومٌ‏
بائعِةُ الصَّدفِ البحريّ،‏
رَمَتْها ضَرْبَةُ شَمْسٍ،‏
والرسَّامُ المتجوِّلُ جُنَّ،‏
وصَبّاغُ الأحذَيةِ الطيِّبُ،‏
عِنْدَ السَّاحِلِ، مَاتْ‏
***‏
فاكتُبْ ياهذا ثانيةً،‏
في سِفْرِ الريح:‏
لماذا الخنجرُ يكبرُ،‏
والوردةُ تُسْحَقُ تَحْتَ العَجَلاتْ؟؟...‏
ليلٌ آخر...‏
الليلُ ينثُّ رَذَاذَ نُعاسٍ،‏
مَقْدِيشُو خَلَعَتْ ثَوْبَ البحرِ،‏
وَغَلَّقَتِ الحاراتِ ، ونامَتْ‏
وهناكَ بَعِيداً‏
- حيثُ السَّاحِلُ وَشْوَشَةٌ غامِضَةٌ...‏
وطيورٌ هائِمَةٌ،‏
في العُتْمَةِ والرّيح-‏
هناك بعيداً،‏
تَغْفُو فاطِمَةُ البائِعَةُ الطِفْلَةُ،‏
بينَ سِلاَلَ الخَرَزِ الشِّيح،‏
وعَبْدُ اللهِ المُتَسَوِّلُ،‏
يَلْحَسُ قِشْرَ المانجو،‏
وَيُداعِبُ قِرْدَهُ،‏
أو يرقبُ بَاخِرَةً تَرْحَلُ ، باخِرةً تُقْبِلُ،‏
عبدُ اللهِ يُحدِّثُها،‏
عن جَمْرٍ يُولَدُ في عَيْنَيهِ،‏
وعن شَجَرٍ يَتَفَتَّحُ أطفالاً،‏
وَسِلالاً، وعَنَاقيدْ...‏
وَتُحَدّثُهُ،‏
عن نبعٍ يكبرُ بينَ يَدَيْهَا،‏
عَنْ جُزُرٍ تَتَلألأُ خَلْفَ الموَج،‏
تُحَدِّثُهُ،‏
ويُحَدِّثُها،‏
والبحرُ يفيضُ،‏
بأَصْدافِ الفَرَحِ الموعُودْ...‏
***‏
الليلُ ينثُ رذاذَ نُعاسٍ،‏
الحاناتِ البَحْرِيَّةُ،‏
تَغْرَقُ بالموسيقى والفَتَياتِ،‏
وَقَهْقَهةِ البّحَّارَةِ،‏
والسيَّاحِ الوقحين،‏
ويبقى للبحرِ صديقانْ:‏
فاطِمَةُ البائِعَةُ الطِفْلَةُ،‏
والطفلُ المُتَسوِّلُ عَبْدُ الله...‏
آياتُ الجوع...‏
اقْرَأْ‏
والأرضُ رَغيفُ،‏
يخطفُهُ لِصٌّ في ثوبِ صديقٍ،‏
والجرحُ فَضَاءْ...‏
اقْرَأْ‏
باسمِ الجوعِ المفترسِ الطافِح‏
بينَ بيوتٍ مِنْ لَحْمٍ وصفائح‏
حيثُ الموتُ المُفْزِعُ،‏
خُفَّاشٌ مُلتَصِقٌ بِشَظايا الرّوحِ،‏
وحيث الناسُ ،‏
عيونٌ زائِغَةٌ،‏
وبطونٌ تَسْعَى...‏
***‏
والحُزْنِ، وما أعْطَى‏
والموتِ، وما أبقى،‏
والأيامِ المُثْقَلَةِ الحُبْلَى‏
لن تَجْنِي كَفٌّ ماتغرسُ،‏
حتى تَصْفَعَ أَقْفيَةَ الغُرَباءْ...‏
خذوا الحكمة من الغابه...‏
في أَرَضٍ تُدعى:‏
"جوهر"،‏
حَدَّثَنِي شيخٌ أَفْرِيقيٌّ،‏
كُنتُ قَرَأْتُ بِعَيْنَيهِ،‏
بَرِيقَ الأَزْمَانِ الحَيَّةِ،‏
قال:‏
انظُرْ كيفَ تحلُّ اللعنَهْ...‏
في يومٍ ما،‏
- يوم يُشبِهُ هذي الأيّام-‏
صَحا الناسُ على شَيْءٍ‏
يَسْرِي مثلَ وَبَاءٍ في الغابَةِ،‏
فالثعلَبُ يخطرُ في فَرْوَةِ ذِئْبٍ،‏
والنّمْرُ برأْسِ حِمَار،‏
والنسرُ بِحُنْجرةِ العصفورِ،‏
الأَسَدُ،‏
الثعبانُ،‏
القِرْدُ،‏
جميعُ الحيواناتِ... بِأشْكَالٍ أُخْرَى‏
وأَتَى يومٌ،‏
"أيضاً يُشبِهُ هذي الأيَّام"..‏
فيهِ صَحا الناسُ،‏
على لَهَبِ يتصاعَدُ في تِلْكَ الغابةِ،‏
قالَ الشيخُ الأَفْريقيُّ:‏
ومِنْ ذاكَ اليوم،‏
إلى الآن‏
أقولُ لهذا الإنسان،‏
الموغل في الغاباتِ البَشَريَّة:‏
لا تَأْخُذْ‏
إلاَّ دَوْرَكْ...‏
سُؤال...‏
وأَنا مُنْهَمِكٌ،‏
أركضُ بينَ جُموعِ النَّاسْ..‏
فاجَأني دَرويشٌ مجذوبٌ،‏
يصرخ:‏
أينَ الأُفقُ الأوسَعْ،‏
والصوتُ المعشوقُ،‏
وأَيْنَ حَريقُ اللونِ الأَسْوَد؟!...‏
***‏
في اليوم الثاني،‏
كان الصَّمْتُ،‏
ثقيلاً يهبطُ فوقَ وجوهِ الناسِ،‏
وفي الحارَةِ ، والسُّوق‏
وكنتُ أَصيحْ:‏
أَيْنَ الدرويشُ المجذوبْ؟!‏
حكاية...‏
غَرْبِيٌّ سَائِحْ...‏
مَرَّ بمَقْدِيشُو هذا العام‏
فَأُعْجِبَ بالمَوز، وبالخُضْرَةِ، والبحرِ،‏
وَأُعْجِبَ أَكْثَرَ‏
بالشعْبِ الطَيِّبِ،‏
قال الراوي:‏
ذاتَ صباحٍ‏
تَحْتَ النُّصْبِ الثوريِّ،‏
تَوَقَّفَ ذاكَ الغربيُّ السَّائِحُ،‏
مذهولاً،‏
فَرَآهُ الناسُ يُحدِّقُ،‏
في قَبْضَةِ تمثال "دَكحْطُور"‏
ويكتبُ:‏
"هذا تذكار هزيمَةِ‏
أَسْلاَفي الوقحينْ"‏
لكِنَّ دَكَحْطُور الآخر،‏
- قال الراوي-‏
كان يُطوِّحُ مافي قَبْضَتِهِ،‏
ويَسِيرُ،‏
أَمامَ الناس، ‏
وكانَ الغَرْبيُّ السَّائِحُ،‏
يَلْتَقِطُ الصورةَ،‏
تلوَ الصوره...‏
حلم...‏
أَفْعَى تنفخُ حَولَ الشَجَرَه...‏
وَمِنَ الكوخِ الصُّوماليِّ المُتْعَبِ،‏
يَأْتِي طفلٌ،‏
يَصْرُخُ في وَجهِ الأفْعَى:‏
هذا حَقْلِي،‏
وَمِنَ العَرَقِ الأَسْوَد،‏
يطلعُ عنقودُ المَوزْ...‏
يَلْمَحُني الطِفلُ،‏
"أنا أيضاً جِئْتُ،‏
لأَصرخَ في وَجْهِ الأَفْعَى"..‏
يَتْبَعُني،‏
أتْبَعُهُ،‏
وَمَعاً، نَفْتَحُ درباً،‏
في الحقلِ الواسِعْ...‏
سَتَعُود...‏
وَغَفَا الرَّجُلُ القادِمُ،‏
وهو يُحَدِّثُ نَفْسَهْ:‏
ستعودُ غداً مِنْ أفرِيقيا‏
بِعَصَافيرَ مَلوَّنةٍ، وبِأعْوادِ بخورٍ،‏
وزجاجاتِ عُطورٍ‏
ستعودُ بأَفْيَالٍ مِنْ أَبَنُوسَ،‏
وأطواقٍ من شيحٍ،‏
وخواتمَ من عاج‏
وَتَعُودُ،‏
بِعَيْنَينِ تُضِيئَانِ،‏
وَكَفَّيْنِ تُضِيفَانِ،‏
وَقَلْبٍ مُغْتَسِلٍ بِرَحيقِ الطِّيبِ،‏
وَحُبِّ البُسَطاءْ...‏
سَتعودُ إذنْ.. ها؟!‏
نَهَضَ القادِمُ:‏
- لكنّي مازِلْتُ أُحَاوِلُ أَنْ أدخلَ أفْريقيا،‏
أن أمنْحَهَا شَيئاً يبقى‏
فَلأَدْخُلْها..‏
وأُسَمِّي الأشياءْ...‏
الخروجُ من بطن الحوت..‏
وَيَشَاءُ حَنِيني للسَّفَرِ الدائمَ،‏
أَنْ أَدْخُلَ أرضَ جَزيرَةِ "قافْ"...‏
وجَزيرَةُ قاف،‏
- كما حَدَّثَنِي جَدِّي-‏
نَائِيَةٌ، تَقْبَعُ خَلْفَ حُدودِ المَعْمُوره..‏
طوَّفْتُ بها سَبْعَةَ أيّامٍ بلياليها،‏
أسْمَعُ فيها، وأرى‏
في اليوم السابع،‏
قُلْتُ:‏
لماذا لا أدخلُ مَمْلَكَةَ البَحرْ؟!..‏
ودَخَلْتُ،‏
رَأَيْتُ الموجَ يُدَحْرِجُ شَمْساً حمراء،‏
وأصدافاً هائِلَةً‏
تَتَفتَّحُ في زَبَدٍ سِحرِيٍّ منفوخ،‏
وسَمِعْتُ خيولَ العاصفةِ الشرقيَّةِ،‏
فوقَ صُخُورٍ دَكْناءَ،‏
تُحَمْحِمُ،‏
والماءُ يُغطِّي حُوريَّاتِ البَحْرْ..‏
وَهَجَسْتُ وجُوهاً،‏
تشحبُ في الأفقِ النائي،‏
وخُطىً تَتَخَبَّطُ،‏
ثم تَضِيعْ...‏
***‏
- ماذا أُبصِرُ:‏
"قلتُ لنفسي".‏
- فَتَجَمَّعَ حَوْلِي خَلْقٌ في الأرضَ كثيرٌ:‏
"أصواتٌ تَلْتَفُّ على قَدَمَيَّ،‏
عيونُ تَلْقَفُ عَيْنَيَّ،‏
أَكَفٌ تَلْحَقُني"‏
واقْتَادوني مِنْ شَفَتَيَّ،‏
إلى البحرِ،‏
وَقالَوا:‏
عُدْ يا يُونُسُ -مِنْ حيثُ أتَيتَ-‏
إلى بطنِ الحُوت،‏
أجِئْتَ لِتَعْجَبَ،‏
أم تدخل طَقْسَ الأمواج؟!‏
***‏
فاذْكُرْ يايونسُ،‏
قَرْيَةَ أبنائِكَ،‏
والرحلةَ في بَطْنِ الحُوت،‏
رَمَوْكَ بأَصدافٍ قاسِيَةٍ،‏
وَتَشَقَّقَ جِلْدُكَ،‏
فاتَّعِظِ اليوم،‏
وغادِرْ دَوْرَ الشَحَّاذِ السّاذَج،‏
قُلْ: إني أُدخلُ ، ولأَغْرَقْ‏
هذا ما اخترتُ،‏
وهذا عَصْرُ خُروجي...‏
واذْكُرْ يايونس،‏
كيفَ تركتَ الأَمْسَ ينوحُ وراءَك،‏
ثم تَوَزَّعْتَ،‏
وللرَّغَبَاتِ خَفَضْتَ جَنَاحَ الذكْرَى‏
فَادْخُلْ..‏
حتى يَخْضَرَّ جَبينُكَ،‏
في البحرِ،‏
وكُنْ حيثُ الأُفْقُ يكونْ...‏
***‏
وَتَطَلَّعَ بِي شَيْخٌ،‏
في هَيْأَةِ طفلٍ،‏
قالَ: لماذا تعجب؟!‏
حَدِّقْ.. ولَسَوْفَ تَرى..‏
وَ تَلفَّتُ،‏
وكان الشاطِئُ مُحْمَراً يغلي،‏
فَرَأَيتُ رجالاً،‏
يُخْرِجُ كلُّ مِنْهُمْ سكيناً، ويُهَرْوِلُ‏
هَرْوَلْتُ،‏
فناوَلني رَجُلٌ منهم سكيناً،‏
ثم اشتبَكَتْ حَلقاتُ الرَّقص،‏
وهَمْهَمَتِ الأصواتُ المُبْهَمَةُ:‏
" استَقْفُورو... اسْتَقْفُورو"...‏
وبِلَحظاتٍ،‏
كانت كلُّ الأَيدي تَنْقَضُّ‏
على شِدْقَيْ حوتٍ وَحْشِيٍّ،‏
يَزْفَرُ في الزَّبَدِ المُحْمَرِّ،‏
" استَقْفُورو... اسْتَقْفُورو"...‏
قُلتُ:‏
الساعَةَ يَغْتَسِلُ الموجُ الهائجُ بالدّم،‏
قالوا:‏
وكذلكَ تخرجُ مِنْ بَطْنِ الحوتْ...‏
........................‏
سَكَنَ الموجُ،‏
فَعَادَتْ حورياتُ البحر تُلَوِّحُ،‏
واخْضَرَّتْ جُزُرٌ فوقَ الماء‏
وحَطَّتْ عند الشاطِئِ،‏
شمسٌ بيضاء‏
***‏
فاسْكُنْ يايونسُ قَلْبَ المَوْجَةِ ،‏
يخرجُ حُوتُ الغَفْلَةِ،‏
مِنْ أعْمَاقِكَ،‏
تخرُجْ مِنْ أَرْوِقَةِ القانونْ...‏
وإذا ما عُدْتِ إلى "الموصل"،‏
قَرْيَتكِ الأُولى‏
فاقْصُصْ رُؤياكَظ على الصَّحْبِ،‏
وذَكرِّهُمْ بِعَذابِ الصَّبْرِ،‏
وَقُلْ:‏
إن الذكرى خَيْرٌ مِمَّا تَصِفُونْ...‏