تِلْكَ الشجرة البعيدة.. - معد الجبوري

شَجَرُ التّوتِ،‏
غادَرَ كُلَّ المنازلِ،‏
وَحْدَكِ في الحَيِّ تبقينَ غامِضَةً،‏
مثلَ بيتِي العتيق،‏
النساءُ الجميلاتُ غادَرْنَ قبل العَشيَّةِ،‏
وحدَكِ تبقينَ شامخةً،‏
وجميلَهْ..‏
شَجَرُ التوتِ صَوَّحَ،‏
والسيِّداتُ النبيلاتُ،‏
طَوَّحَهُنَّ العذابُ،‏
رِفَاقُ الطفولَةِ راحوا‏
ومازلتِ‏
سيدةَ الأصدقاءِ القُدَامى،‏
وَوَكْرَ الطفولَهْ..‏
***‏
ذاكَ وَجْهُ الصبيِّ‏
الذي يَتَقَافَزُ،‏
بين السطوح القديمَةِ،‏
صوتُ الصبيِّ الذي يملأُ الدارَ،‏
ضُمِّيهِ،‏
لَغْوُ العصافير أُفْقٌ لعينيهِ،‏
والورَقُ المتطايرُ في الريحِ،‏
أَجْنِحَةٌ لأغانيهٍ،‏
ضُمّيهِ، ضُمّيهِ‏
ذاكَ زمانٌ نَظِيفٌ وممتلِئٌ،‏
كالغصونِ الطريَّةْ..‏
***‏
تِلْكَ أُختي التي ودَّعَتْ،‏
وثيابُ الزَّفافِ عليها‏
وحنَّاؤُها في يَدَيْها‏
تزغردُ،‏
بين البناتِ الصغيراتِ،‏
ضُمّي أسَاودَها،‏
وَجَدَائِلَها،‏
والزغاريد،‏
ضُمّي حكايات أمي‏
التي تَتَفَيَّأُ مِنْ بَعْدِها،‏
بالصلاةِ، وبالذكريات‏
ظِلالُكِ تَمْتَدُّ،‏
مثل ضَفَائرِ أُختي‏
وَيَمْتَدُّ فيكِ الزّمانُ،‏
وأنتِ الصَبيْهْ..‏
***‏
تِلْكَ أمي‏
-التي حينَ يَبْتَلِعُ الليلُ وجهيَ-‏
تَلْتَفُّ مُثْقَلَةً بِعَبَاءَتِها،‏
وَمَخَاوفِها،‏
وتطوفُ المحلَّةَ‏
قُولي لَها:‏
سَيَعُودُ الصبيُّ المُدَلَّلُ‏
ذاك الذي كان يشردُ،‏
إذ تهبطُ الظلماتُ الثقيلَهْ..‏
كانَ نَهْرُ الطفولَةِ مُتَّصِلاً،‏
والليالي طويلَهْ.‏
***‏
آخذُ الآنَ قلبيَ،‏
مِنْ بينِ أعْشَاشكِ المُطْمَئِنَّةِ،‏
مِنْ حَبَّةِ التوت،‏
مِنْ طَلْعِ كُلِّ البراعمِ،‏
أَمْسَحُ عَنْهُ الغُبارَ القديمَ،‏
وأحلم:‏
قلبيَ عُنقودُكِ الأبيَضُ الغضُّ،‏
ينفرِطُ الآن، في سَاحةِ البيت،‏
قلبيَ فَرْخُ اليمامِ،‏
ينطُّ من الغُصْنِ، ‏
للغصنِ،‏
يلهو مع الصِبْيَةِ المَرِحِين،‏
وَقَلبيَ تِلْكَ الجذورُ البعيدةُ،‏
تطلعُ،‏
في كُلِّ بيتٍ من الحَيّ،‏
***‏
آخذُ وجهيَ،‏
أَمْسَحُ عَنْهُ رَمَادَ المسافاتِ،‏
مَنْ يَمْسَحُ الآنَ شيبي المبكّر،‏
لِي نَهَرٌ آخر يتواصَلُ،‏
يَبْدَأُ،‏
مِنْ حُلْمِ ذاكَ الصبيِّ المدلل،‏
يَبْدَأُ منكِ،‏
ومن صبرِ أمي التي لم تَزَلْ بَعْدُ،‏
شامخةً،‏
وجَميلَهْ..‏