شاهدة قبر من دموع الكلمات - يحيى السماوي

" الى روح أمي طيّب الله ثراها "
***
(1)
ليَ الآنَ
سـَبَبٌ آخر يمنعني من خيانة ِ وطني :
لحافُ ترابِه ِ السـميك
الذي تـَـدَثـَّرَتْ به أمي
في قبرها أمس !
(2)
وحدُهُ فأسُ الموتِ
يقتلعُ الأشجارَ من جذورها
بضربة ٍ واحدة
(3)
قبل فراقها
كنتُ حيّا ًً محكوما ً بالموت ِ ..
بعد فراقها
صرتُ مَـيْتا ً محكوما ً بالحياة
(4)
لماذا رحلت ِ
قبل أنْ تلديني يا أمي ؟
أما من سلالمَ أخرى غير الموت ِ
للصعود نحو الملكوت ؟
(5)
في أسواق " أديلايد "
وَجَـدَ أصدقائي الطيبون
كل مستلزمات مجلس العزاء :
قماش أسود .. آيات قرآنية للجدران ..
قهوة عربية .. دِلالٌ وفناجين ..
بخورٌ ومِـسْـك ٌ ..
باستثناء شيء ٍ واحد ٍ :
كوبٌ من الدمع ـ حتى ولو بالإيجار
أعيد به الرطوبة َ
إلى طين عينيَّ الموشكتين على َ الجَـفاف !
(6)
لم تحملْ نعـشـَها عربة ُ مدفع
ولم يُعزف لها مارش ٌ جنائزي ..
أمي القروية لا تـُحِبُّ سماعَ دويِّ المدافع ِ
ليس لأنه يُفزِع ُ العصافير َ فحسب ..
إنما
ولأنه ُ يـُذكـِّرُها بـ " الطراطير" ..
الذين أضاعوا الوطن .. وشـَرَّدوني ..
نعشـُها حَـمَلـَتـْهُ سيارة ُ أجرة ٍ
وشـَّيعَتـْها عيونُ الفقراء ِ
والعصافيرُ
والكثيرُ من اليتامى
يتقدمهم شقيقي بطرفهِ الإصطناعية
وشقيقتايَ الأرملتان ...
يتقدَّمُ الموكبَ
جدولٌ من دموعي
(7)
كيفَ أغفو ؟
سَــوادُ الليل ِ يُـذكـِّرُني بعباءتها ..
وبياض النهار ِ يـُذكـِّرني بالكفن ..
يا للحياة من تابوت ٍ مفتوح !
أحيانا ً
أعتقدُ أنَّ الحَـيَّ ميتٌ يتنفـَّسُ..
والمـَيْتَ حيٌّ لا يتنفـَّس..
(8)
الأحياءُ ينامون فوق الأرض..
الموتى تحتها ..
الفرقُ بينهم : مكانُ الســرير ِ
ونوع الوسائد والأغطية !
(9)
آخرُ أمانيها :
أنْ أكونَ مَـنْ يـُغمضُ أجفان قبرِها ..
آخرُ أمنياتي
أن تُغمِضَ أجفاني بيديها ..
كلانا فشلَ في تحقيق أمنية ٍ متواضعة
(10)
أيها العابرُ : لحظة ً من فضلك ..
هلا التـَقـَطـْتَ لي صورة تذكارية ً مع الهواء ؟
وثانية ً مع نفسي ؟
وثالثة ً عائـلية
مع الحزن والضجر ِ
وأمي النائمة في قلبي ؟
(11)
سـُبحانك يا رب !!
أحـقـّا ً إنَّ عذابَ جهـنمَ
أشـَــدُّ قسـْوة ًمـن عَذابي
حين تـَعَـذرَ عليّ توديع ُ أمي ؟
آه ٍ ... لو أنَّ ساعي بريد ِ الآخرة ِ
قد وضعَ الرسالة َ في صندوق عمري
لا على وسادة أمي ..
(12)
أشـقـّائي غـطـّوها بلحاف ٍ سـَمـيك ٍ من التراب ..
ربما
كي لا تـَسـْمعَ نحيبي
وأنا أصرخ في البريّة ِمثلَ طفل ٍ ملدوغ ٍ : أريد أمي
فتبكي ..
(13)
لسـْت ُ ثـَمِـلا ً ..
فلماذا تنـظرون َ إليَّ بازدراء ٍ
حين سـقـَطـْتُ على الرصيف ؟
مـَنْ منكم لا ينزلقُ مـُتـَدَحْـرِجا ً
حين تتعثـَّرُ قدماه بورقة ٍ أو قطـرة ِ ماء ٍ
إذا كان يحملُ الوطنَ على ظـهْـره ِ
وعلى رأسـِْه ِ تابوتُ أُمِّــه ؟
(14)
يا كلَّ الذين أغضـْبْتـُهم يوما
من أصدقاء طيبين .. ومجانين .. وباعة خضروات ..
وطلبة ٍ .. وزملاء ِ طباشيرَ وأرصفةِ منفى :
إبعثوا إليَّ بأرقام هواتفكم ..
فأنا أريدُ أن أعتذر َ منكم
قبل ذهابي للنوم ِ
في حضن ِ أمي
(15)
وأنتم أيها الهمجيون
من متحزِّمين بالديناميت .. وسائقي سيارات مفخخة ٍ ..
وحَـمَلـَة ِ سواطيرَ وخناجرَ :
كفى دويَّ انفجارات ٍ وصخبا ً ..
إنَّ أمي لا تحبُّ الضجيج ..
الطيبة أمي ما عادت تخاف من الموت ..
لكنها
تخاف على العصافير من الشظايا ..
وعلى بخور المحراب من دخان الحرائق
(16)
حين أزور أمي
سأنثر على قبرها قمحا كثيرا ..
أمي تحب العصافير ..
كل فجر ٍ :
تستيقظ على سـقسـقاتها ..
ومن ماء وضوئها : كانت أمي
تملأ الإناء الفخاري َّ تحت نخلة البيت
وتنثر قمحا وذرة صفراء
(17)
في صِـغـَري
تأخذني معها إلى السـوق ..وبيوت جيراننا ..
وإلى الأئمة
حين تزور الأضرحة َمحملة ً بالنذور الشحيحة ..
حتى وأنا في مقتبل الحزن
لا تسـافرُ إلآ وأنها معها ..
لماذا إذن سافرت وحدها نحو الملكوت ؟
ربما
تستحي من ذنوبي ..
آه ٍ
من أين لي بأم ٍ مثلها
تسـاعدني في غسـل ِ ذنوبي
بكوثر دعائها حين تفترش سجادة الصلاة ؟
(18)
يا أحبّـائي الطيبين
لا تسـألوا الله أن يملأ صحني بخبز العافية ..
وكوزي بنمير الإنتشاء ..
فأنا الان بحاجة إلى :
صـَبْر رمال الصحراء على العطش ..
وتجَـلـُّد ِ بغل ٍ جبليٍّ ..
وبلادة خروف ..
ولا بأسَ
من عقل ِ حمار
(19)
لم تكن أنانية ً يوما ً ..
فلماذا ذهبت الى الجنة ِ وحدها
وتركتني في جحيم الحياة ؟
(20)
مـُذ ماتت أمي
لم أعـُدْ أخاف عليها من الموت ..
لكنها قطعا
تخاف الان عليَّ
من الحياة
(21)
رباه :
أريدُ أوراقا ً من ماء ..
لأكتب عليها
كلمات ٍ من جمر ..
__________
16 ـ 8 ـ 2007
استراليا