بلبل في قفص (1) - إبراهيم العريض

كم آيةٍ لله في خلقهِ
مظهرها الحُسْنُ!
يا من له قلبٌ.. ألا فاسقهِ
من كأسنا نحنُ
لؤلؤتي! كم مرّةٍ قلتِ لي:
«يا أبتاه، اروِ لنا قصّهْ...
ما أوحشَ الليلَ بلا سلوةٍ
أما لنا من غدره فُرصه؟
وأنتِ من سنّكِ في باكرٍ
تُورث من جاوزها غُصّه
لا تفهمين الشعر.. إلا إذا
خفّ بمن يُنشد للرقصه
حتى إذا عاينتِني ليلةً
مُنهمكاً، وأنتِ في رُخصه
أستطلع الأنجم في دُملجٍ
خُيِّلتِ لي -- من دونها - فَصّه!
نبّهني صوتُك مسترفِداً:
«أليس في شعرك لي حِصّه؟»
بَلى! وبُلّغتِ، فلا عمرها
يظلّ في الطوق.. ولا حفصه
دونكِ من حبي - إذن - نفحةً
تجمع بين الشعر والقصه..
لبلبلٍ فُرِّق عن إلفهِ
يا ما رأى في قفص شخصه:
****
بنيّتي! إنْ كنتِ لم تخرجي
إلى ضواحينا
فاتَكِ في حاضرنا المُبهجِ
أحوال ماضينا
أبصرتُها خَوْداً على فقرها
كأنها الريحان في الآنيَهْ
ترفع ما تجني على رأسها
حاسرةً - رأدَ الضحى - حافيه
وسط نثار القمح تمشي بهِ
في حقلها ضاحكةً لاهيه
فلو بدا للـ«حُسْن» في غيرها
ما اختارها إلا على ما هيه
قريرة العين بما تجتلي
من فرشه، مُحتضناً واديه
والماء يجري تحتها سلسلاً
ينفض بُرْدَيْهِ، من الساقيه
كم أنشد الطيرُ على بابها
بكل ما تشعره هانيه
كأنما ينبع من قلبها
ما أنطقَ اللهُ به شاديه
أغنيةً في الحب معسولةً
لا الوزن يُزريها ولا القافيه
غانيةٌ.. قد زانها أنّها
تنعم في الأسمال بالعافيه
لقد أعادتْ للضحى أُنسَهُ
لما انثنتْ تيها
كأنّما «الحُسن» يرى نفسَه
مُجسّماً فيها
وعاش للخَوْد ابنُ عمّ لها
كأنها رايته في الجهادْ
أَلّف ما بينهما سعيُهُ
لودِّها بالرزق من كل واد
فحظّه منها على وصلهِ
كحظها منه - قراءٌ وزاد
كان اذا أمسى فهشّتْ لهُ
وحدّثته بليالي الحصاد
كأنما البدر على وجهها
يُشرق بالأنوار ملء الوهاد
كان إذا آوى إلى رحلهِ
حُبِّب في صمت إليه السُّهاد
كأنما الأنجم تُلقي لهُ
لألأةً عنها حديثاً يُعاد
ولم تكن «نُعم» وقد نهّدتْ
أقلَّ إصغاءً لهمس الفؤاد
وإنما عاشتْ من الصون في
زهو الثريا، رغم قرب الوساد
كأنما الحسنُ الذي زانَها
ما صانها إلا لأمر يُراد
كلاهما يسعى بلا مِنّةٍ
لراحة الآخرْ
ضمّهما طيرين في جنةٍ
حبّهُما الطاهرْ
ومرّتِ الأشهرُ في حسنها
أشبهَ شيء بشذور اللآلْ
كأنما هلّ بها كوكبٌ
في غمرة من نوره، ثُمّ زال
فكل صبح نظرةٌ.. تلتقي
على معانٍ، كم لها من ظلال
وكلَّ عصر، موعد.. ينتهي
في نزهة، يغفو عليها الخيال
هل يذكر القُمريّ إذ أقبلا
يوماً، فأغضتْ طرفها في دلال
وكفُّها اليسرى على صدرها
في مِجْول ضاء بها كالهلال
«يا هانىءُ! اصْدقني، فلو نالني
غيرُك بالدنيا.. رفضتُ النوال
أكنتَ تهوانيَ، لو لم يكنْ
لي في شباب العمر هذا الجمال؟»
وكاد لا يُفصح عن ردّهِ
لولا دموع بدرت بانهمال
فقرّبتْ فاهاً على رعشةٍ
تلقط من فيه جواب السؤال
قد قدرّ الله لنا عيشةً
فنحن نحياها
ما كل من يُنشد أمنيةً
يا نُعم! يُؤتاها
وزارها هانىءٌ يوماً على
غير الذي تعهد من حالِهِ
يجرّ ساقيه إلى كوخها
جرّاً، ويستأذن كالواله
فرابها أمرٌ.. وودّتْ أسىً
لو أنها ناءتْ بأثقاله
«ما لك يا هانئ!ُ تمشي كمن
يرسف - مجروحاً - بأغلاله؟
اللهَ في قلب تمادى بهِ
حبُّك.. لا تعبثْ بآماله
فأطرق الرأس مليّاً، كمن
يستنكر الخرق بأسماله
وقال «يا بؤسي! ألا ليتني
متُّ ولم أضرع لأمثاله...
هذا الـمُعيديُّ الذي حقلُنا
ملكٌ - بمن فيه - لأخواله
توارثوا الملك يداً عن يدٍ
كأننا من بعض أنفاله
فها هو اليومَ أتى خاطباً
حُسنَكِ - لا كان - على ماله...»
ولم يكد يلفظها - قطرةً
من كأسه المرّه
حتى رآها جمدتْ.. صورةً
ثم هوتْ.. صخره
أهكذا ينهار في لمحةٍ
ما عرّشَ الحب لأجنانها
وتذبل الآمال في روضها
ولم تَطُفْ - بعدُ - بريحانها
فليتها ما لبستْ حُلّةَ الْـ
ـحُسنِ، ولا ضاء بوجدانها
إضاءةَ الشمس لما حولها
وهي مُعرّاة لنيرانها
وبُتَّ في الأمر، وتمّ الذي
شاءتْ لها الأم بطغيانها
فحفَّ بالغادة أترابها
يُصلحنَ - كالعادة - من شانها
من كل حوراءَ.. كأنّ الكرى
يضحك للصبح بأجفانها
يُجلينها بالطيب في عَرْشةٍ
تعبق في حمرةِ أركانها
فاختلجتْ في عينها دمعةٌ
غُصَّ به الحلقُ لتهتانها
وزُفّتِ البنتُ إلى عِرسها
قد علم الله بأشجانها
كوردة جَلوتُها لم تَطلْ
في حضن مَيّاسِ
حتى حواها القصر بين الكِللْ
حانيةَ الراسِ
وأصبحتْ لؤلؤةَ القصر.. لا
تملك للمالك إلا رضاهْ
فعطّرتْ فاهُ بأنفاسها
ساعةَ ما دارتْ عليها يداه
وبلّلتْ بالدمع أشواقَهُ
كما يبلُّ الزهر طِيباً نَداه
لائذةً بالذلّ من صمتها
بين يديْ عزّته حين فاه:
«كم كنتُ أهواكِ، ولكنني
أعبدكِ اليوم لهذا الشُّداه!»
ولم يعد في قلبها موضعٌ
تشكوه من شدّة ما قد عراه
كزورق في لجّة، غاب عن
نوتيّه الكوكبُ وَهْناً، فتاه
تُنسيه في الليل هموم الضحى
كأنها في الدهر معنى صِباه
حتى إذا أغفى على حُلمهِ
عادت ترى في الحلم مالا يراه
كأنما عاد لها عيشُها
بين مجالي الزهر، حول المياه
لم تألُ في خدمته جهدَها
بحسنها الفاني
دافنةً في قلبها عهدها
لـ«قلبها» الثاني
ومرّتِ الأيام، والكلّ مِنْ
نُعم وما جدّ لها في حُبورْ
إلا فؤاداً في دُجى يأسهِ
تخطّفتْه جارحاتُ النسور
كم ناشد الأنجمَ عن لحظها
وعن صباها البدرَ إذ يستدير
وناشد القُمْريَّ عن ضحكها
وعن سراها ناعساتِ الزهور
وكم أجال الطرف من حولهِ
فلا يرى إلا الدوالي تدور
وكوخها خلف الربى خاوياً
من بعدها تأوي إليه الطيور
فيذرف الدمع على حالهِ
كأنما الدمع بقايا سطور
من قصة يحمل في قلبهِ
عنوانها، مُرخىً عليها ستور
وكم أطلّتْ غادةُ القصر من
شرفتها تحلم، والصبح نور
فأبصرتْه مثلَ طيف الهنا
في أرضها يُلقي عليها البذور
أهكذا ينهار في عرسها
ما شاده الحبُّ؟
وينمحي ما خطَّ في طِرسها
من دمه القلبُ.