أمّي - عبدالله البردوني

تركتني ها هنا بين العذاب
و مضت ، يا طول حزني و اكتئابي

تركتني للشقا وحدي هنا
و استراحت وحدها بين التراب

حيث لا جور و لا بغي و لا
ذرّة تنبي و تنبي بالخراب

حيث لا سيف و لا قنبلة
حيث لا حرب و لا لمع حراب

حيث لا قيد و لا سوط و لا
ظالم يطغى و مظلوم يحابي

***

خلّفتني أذكر الصفو كما
يذكر الشيخ خيالات الشباب

و نأت عنّي و شوقي حولها
ينشد الماضي و بي – أوّاه – ما بي

و دعاها حاصد العمر إلى
حيث أدعوها فتعيا عن جوابي

حيث أدعوها فلا يسمعني
غير صمت القبر و القفر اليباب

موتها كان مصابي كلّه
و حياتي بعدها فوق مصابي

***

أين منّي ظلّها الحاني و قد
ذهبت عنّي إلى غير إياب

سحبت أيّامها الجرحى على
لفحة البيد و أشواك الهضاب

ومضت في طرق العمر فمن
مسلك صعب إلى دنيا صعاب

وانتهت حيث انتهى الشوط بها
فاطمأنّت تحت أستار الغياب

***

آه " يا أمّي " و أشواك الأسى
تلهب الأوجاع في قلبي المذاب

فيك ودّعت شبابي و الصبا
وانطوت خلفي حلاوات التصابي

كيف أنساك و ذكراك على
سفر أيّامي كتاب في كتاب

إنّ ذكراك ورائي و على
وجهتي حيث مجيئي و ذهابي

كم تذكّرت يديك وهما
في يدي أو في طعامي و شرابي

كان يضنيك نحولي و إذا
مسّني البرد فزنداك ثيابي

و إذا أبكاني الجوع و لم
تملكي شيئا سوى الوعد الكذّاب

هدهدت كفاك رأسي مثلما
هدهد الفجر رياحين الرّوابي

***

كم هدتني يدم السمرا إلى
حقلنا في ( الغول ) في ( قاع الرحاب )

و إلى الوادي إلى الظلّ إلى
حيث يلقي الروض أنفاس الملاب

و سواقي النهر تلقي لحنها
ذائبا كاللطف في حلو العتاب

كم تمنّينا و كم دلّلتني
تحت صمت اللّيل و الشهب الخوابي

***

كم بكت عيناك لمّا رأتا
بصري يطفا و يطوي في الحجاب

و تذكّرت مصيري و الجوى
بين جنبيك جراح في التهاب

***

ها أنا يا أمّي اليوم فتى
طائر الصيت بعيد الشهاب

أملأ التاريخ لحنا وصدى
و تغني في ربا الخلد ربابي

فاسمعي يا أمّ صوتي وارقصي
من وراء القبر كالحورا الكعاب

ها أنا يا أمّ أرثيك و في
شجو هذا الشعر شجوي و انتحابي .