حزين من الحب - طالب همّاش

(1)‏
هلالٌ وحيدٌ على قبّةِ الليلِ‏
وامرأةٌ من بياضِ المناديلِ‏
واقفة تتأمّلُ أيامَهَا عند شطِّ الغروبِ،‏
وتُصغي لتنويحةِ النايِ بين السحبْ.‏
هلالٌ من الدمعِ‏
خَصَّلَهُ العشقُ من هدبِ عاشقةٍ‏
ورفعناهُ إلى كتفِ الغيمِ‏
من شوقنا للمواويلِ‏
يا قرويَّةُ نادي على الغيمِ أن يحتجبْ!‏
لنبصرَ ذاكَ الغيابَ الذي تتلألأُ أشجانهُ‏
في البعيدِ‏
ونتبعُ دربَ المحبينَ‏
يا قرويةُ نادي على الغيمِ!‏
والقرويةُ بنتُ النداءِ المبكّرِ للقمحِ،‏
بنتُ الرياحينِ في شجرِ الحبِّ‏
بنتُ الحمامِ الذي طارَ خلفَ الزغاريدِ‏
كي يتزوّجَ واحدةً‏
فاستحالَ إلى دمعةٍ وانسكبْ!‏
وطعمُ المواويلِ في الليلِ‏
بنتُ النجومِ الأحبُّ إلى اللهِ‏
نايٌ تأوَّهَ من لذَةِ الحبِّ‏
حتى إذا بُحَّ رجعُ الصدى‏
ثقبتهُ إناثُ القصبْ‏
دموعٌ من الفلِّ مجروحةٌ بالربابِ،‏
إوزّةُ حزنٍ على بيدرِ الصبحِ‏
فضَّ أنوثتها الصقرُ يوماً‏
ولوّثَ من دمها المستباحِ كرومَ العنبْ.‏
هي الحورُ يسقطُ فوق أعالي البكاءِ،‏
حداءُ غيومٍ ركضنَ على وترِ الذكرياتِ‏
المجرّدِ حتى تعبنَ..‏
سقوطُ الكمنجةِ في حزنها،‏
شوكةٌ من غضبْ.‏
تمرَّ كمرِّ السحابةِ في صيفنا الساحليّ،‏
وتجعلُ من روحنا ورقاً للهديلْ..‏
وترحلُ نحو قراها البعيدة‏
يا أيها النهرُ خذني إليها،‏
لأجرحَ أهدابَ قلبي على النايِ‏
واجرِ إلي حزنها سلسبيلْ!‏
خذيني إلى فسحةِ العمرِ‏
كي أتأملَ لونَ العصافيرِ في زرقةِ الفجرِ‏
لا تتركيني وحيداً على النهرِ!‏
لا تتركي قمرَ التوتِ قربي جريحاً‏
لأعرفَ أنَّ السحابَ رحيلْ!‏
وعودي إلى القمحِ يا قرويةُ!‏
أنتِ الدموع التي ذرفتها الغيومُ‏
على زهرِ حزنيَ،‏
أولُ رمانةٍ أسقطتها الرياحُ‏
على قلبيَ الغضِّ‏
أولُ أغنيةٍ أنزلتها النجومُ إلى بئرِ روحي‏
ورجَّعَهَا الماءُ عند حدود القرى‏
في الأصيلْ.‏
أحبك لكنهُ القمحُ:‏
شلحُ حفيفٍ من الحزنِ‏
يحفنُ أرواحنا بالدموعِ،‏
ويجعلُ من حنطةٍ دمنا‏
ثم يتركنا في ضفافِ الهوى كالنصوبْ.‏
* * *‏
ستبكي الحماماتُ تبكي‏
وتولدُ مثل النجومِ من الليلِ‏
يا قرويةُ رُدِّي جدائلَ شعركِ للريحِ كيما أتوبْ!‏
فقلبي حزينُ الأغاريدِِِ..‏
والقرويةُ أصغرُ من بُحَّةِ النايِ‏
في قصباتِ الهديلِ،‏
وأقربُ للحبِّ من غيمةٍ في الغروبْ.‏
* * *‏
حزينٌ من الحبِّ يا شجرةَ الأرزِ‏
حطَّ على كتفي بلبلُ الدوحِ يبكي‏
وردّدَ أغنيتي العندليبْ!‏
حزينٌ من الحبِّ...‏
والقرويةُ تذهبُ كل مساءٍ‏
إلى حقلةِ الأقحوانِ‏
لتجمعَ زهرَأنوثتها الليلكيَّ،‏
وتملأَ جرتها من دموعِ المغيبْ.‏
* * * ‏
تمرُّ كهدي الحفيفِ على‏
وترِ القمحِ‏
أنثى مخصَّلَةٌ من بكاءِ العصافيرِ‏
من شتوةِ الغيم فوق حقولِ الأرزِ‏
تسرّحُ في خلوةِ الروحِ مهرَ الغيابِ‏
وتتركُ أيلولها هائماً‏
في شمالِ النحيبْ.‏
(2)‏
هلالٌ جريحٌ على شجر الليلِ‏
والغيمُ يهجرُ شطآنَهُ في البعيدِ‏
وتبدو المراعي مهجّرةًً‏
مثلَ حزنٍ رعى روحَهُ‏
واستدارَ لتحلبَ قطراتِهِ السودَ‏
أنثى الندمْ.‏
هلالٌ ينوحُ كقوسِ الربابِ‏
على وترِ العمرِ‏
يحفرُ في الروحِ مجرى الوريدِ عميقاً‏
إلى أن يحدّقَ في الموتِ مثلَ الضريرِ،‏
ويجنحُ نحو أعالي النغمْ.‏
وعينانِ لا غيرَ شاخصتان‏
على ضوئِهِ الغضِّ‏
تبتهلانِ كقلبِ الينابيعِ،‏
صحراءُ راكعةٌ تحتَ مئذنةِ الليلِ،‏
نهرٌ فراتٌ رثتهُ النواعيرُ‏
حتى انهدمْ.‏
ولم يبقَ للبدويةِ غيرُ ضريحٍ‏
على صخرةِ الأمسِ‏
ترعاهُ أنثى الإوزِّ الحزينهْ،‏
وتحنو عليهِ النجومُ‏
بحلماتها البيضِ‏
لم يبقَ للبدويةِ غيرُ السرابِ،‏
وبيداءُ طاعنةٌ في الحداءِ،‏
ونجمٌ أصمّْ.‏
فأينَ الغزال الذي أرسلتهُ الأغاني‏
ليمسحَ هدبَ المواويلِ؟‏
أينَ الحمام الذي‏
أرسلتهُ وراءَ إناث الهديلِ؟‏
كأنَّ حياةَ الصبا موعدٌ‏
ضربتهُ الغزالةُ للنبعِ يوماً‏
وقبلَ فوات الأوانِ انصرمْ.‏
فيا بدويةُ كم ليلة‏
سأحدّقُ في قمرِ الحبّ‏
حتى أصير حزيناً؟‏
وكم وردة ستميلُ على الروحِ‏
كيما أحبكِ‏
كم دمعة ستسيلُ ليبرأ حزني الألمْ؟‏
* * *‏
هلالٌ جريح على شجرِ الليل‏
والبدويةُ نايٌ بَرَتْهُ أغاني الحداةِ‏
فراحتْ تنوحُ على مغربِ القلب‏
مثل حدادِ المحبينَ‏
كانَ الكمانُ يقطّعُ أجملَ أنغامهِ‏
خلفها،‏
ولفيفُ الحساسين يتبعها دامعَ الروحِ‏
نحو جراحِ المرايا‏
فأينَ الصبيَّةُ ذات الخلاخيلِ؟‏
كانتْ على صخرةِ الصبحِ‏
أصغرَ شلحةِ فلٍّ رآها السحابُ،‏
ولوّحها طائرُ العشقِ‏
فوقَ أعالي القممْ.‏
فكيفَ تشيخُ دموعُ المواويل‏
في درجِ الليل؟‏
كيفَ تمرُّ سنونٌ من العشق كاملةً‏
دون أن تجرحَ النسماتُ خدودَ الهديلِ؟‏
وكيفَ رثى روحنا في خريفِ الحياة‏
الهرمْ؟.‏