أشهد للريح بالحزن - طالب همّاش

بحزني المجرّدِ والألمِ المرِّ‏
لا غير‏
أفردُ كلتا ذراعيّ كي أتلقى بكاءَ النواعيرِ‏
أو أتهاوى كأرملةٍ فوق قبر الضياعْ.‏
وأصرخُ أين الجهاتُ التي علّمتني‏
هبوبَ الرياحِ،‏
وأين الغيومُ التي كنت صادفتها‏
عند صفصافةِ البئرِ تبكي،‏
وكرمةُ عمري التي أرضعتني‏
عناقيدُها الخمرَ‏
قبل أوان الرضاعْ؟‏
وأصرخُ في مغربِ الشمسِ‏
كيف سأدفع شيخوخةَ الحزن عني؟‏
وكيف سأردعُ هذا المشيبَ الحزينَ؟‏
كأني ما كنت غير غرابٍ‏
يضاجعُ أنثى الرياحِ‏
ويسقطُ في لجّةِ اليأسِ..‏
ريحٌ معذّبة لا تكرّرُ غيرَ رثائي!‏
وأصرخُ في مغربِ الشمس:‏
ردّوا إليّ المواويلَ،‏
ردوا إلى الكهلِ (مريلة الثالث الابتدائي)!‏
أنا عازفُ الناي‏
يدفعني الناي أجري وراء انتظاري،‏
فتركضُ خلفي المواويلُ ناحبةَ الروحِ‏
والريحُ تجري ورائي..‏
ويجري ورائي بكائي!‏
مللتُ انتظارَ المغيبِ‏
وملّ الثواءُ ثوائي.‏
وزوّجني الحزنُ عاشقةً‏
تحملُ الماءَ في حزنها وتنامْ.‏
أما آنَ بعدُ الأوانُ‏
لأقرعَ بوابةَ الروحِ‏
محتفلاً بالمراثي‏
التي شيّعت طفلةَ القرويّ‏
لتغفو إلى صفرةِ البيلسانْ؟‏
كأنّ على العمرِ أن يتوقّفَ‏
كي يتأمّلَ ما ضاعَ..‏
تلك الفتاةُ التي رعرعتها الرياحين،‏
وامتصّها حدقُ الليلِ..‏
كنا نعمّرُ في الليل أصنامنا‏
لننامَ فلمْ ننتبهْ‏
للنجومِ التي تتلألأُ كالدمعِ‏
لم ننتبهْ للحمامةِ وهي تحلّقُ فوق سماءِ الأذانْ!‏
أما آن بعد الأوانْ؟‏
لأرمي على زهرةٍ جسدي من بعيدٍ وأغفو‏
على هذه الأرضِ؟‏
لكنني آخذٌ في الغيابِ..‏
الحمامُ الشهيّ على هوّةِ الروحِ‏
يسقطُ منتحراً‏
والأغاريدُ مشنوقةٌ فوق بوّابةِ اليأسِ‏
هل أتهاوى على قبرِ حبّي الوحيد‏
لأسمعَ رجعَ غنائي القديمِ‏
يسوحُ على نغمةٍ في الكمانْ؟‏
أما آن بعد الآوانْ؟‏
لتلتفتَ الروحُ نحو الفتاة التي‏
ضيّعَ الليلُ أجراسها ثم أهدى إليها‏
خلاخيلَ كي تتزيّنَ للموتِ‏
قبل ثلاثينَ عاماً قضتْ؟‏
عاشقانِ وحيدانِ..‏
تمشي فيمشي‏
ويبكي فتبكي‏
وينهمرُ القمحُ فوق الأرزِّ غزيراً‏
ويحتضرُ الأقحوانْ!‏
وأشهدُ للريح بالحزنِ آخرةَ الليلِ‏
فالآن أبكي وحيداً على ما مضى!‏
هذه الريحُ ثاكلةٌ،‏
والغيومُ محدّبةُ الحزنِ فوق الهضابِ،‏
وقلبي صغيرٌ على الناي!‏
يا طائرَ الليلِ خبّرْ شبابيكهم‏
بالذي كانَ من عمرنا وانقضى!‏
.. وحيداً سأبكي‏
كذئبٍ يعاركُ تلميذةَ القمح‏
حزني قديمٌ كأغنيةٍ..‏
مرّ أيلولُ بيني وبين الصبايا‏
فمِلنا على شتلةِ القطنِ‏
قلنا لها: ضمّدينا!‏
امسحي دمعنا!‏
كلما طعنَ الغيمُ أيامنا بالرحيلْ!‏
.. وحيداً سأبكي‏
بقربِ الصخورِ التي سالَ دمعي عليها‏
فأيقظها الملحُ‏
يسألني الموجُ عنها.. فينتحرُ المدُّ‏
يسألها المدّ عني.. فينتحرُ الموجُ‏
بيني وبين الصبايا‏
وينتحرُ العاشقانْ.‏
حزينٌ طريقُ العشيّةِ‏
في آخرِ الحزنِ تأتي الكآبةُ‏
تأتي الكماناتُ مبحوحةَ الصوتِ‏
(لا أحدٌ) سوف يأتي‏
(ولا أحد) سوف يذهبُ‏
كلُّ الأحبةِ غابوا‏
وضاعتْ ملامحهم في الترابْ!‏
أنا الآن أكبرُ من هذه الأرضِ عمراً وأوهنُ..‏
شاختْ بقرب انتظاري الصخورُ القديمةُ‏
شاخَ أبو الهولِ‏
وهو يفسّرُ لغزَ الحياة‏
وما زلتُ أحفرُ بئرَ الوجودِ ولا أجدُ الماءَ‏
.. أكبرُ من هذهِ الأرضِ‏
أحرسُ أبوابها كالغرابْ.‏
وأقرعُ طبلَ الزمانِ المجوّفِ‏
في صالةٍ فارغهْ‏
ولا من مجيبٍ ولا من مجابْ.‏