رقصة الكروان - طالب همّاش

سامحتكَ بالقلبِ اليائسِ يازريابْ !
الناياتُ ترفرفُ كالبجعاتِ على كونشيرتو العاشقِ
والمطرُ العاطرُ يهطلُ أوتارا أوتارْ ..
والنهرُ يسيلُ زلالاً مع صوتِ الغيتارْ .
فيمَ سكوتك
والسكرُ مسيلُ دموع العينِ على الأكوابْ ؟
فيم سكوتك يا زرياب ْ ؟
المغربُ أسرابُ نجومٍ
تتشعشعُ في بستانِ شموعْ
وسلالٌ تتنزّلُ فوق سلالْ
فالعاشقُ يبكي من فرطِ جمالِ الينبوعْ ..
والجسدُ الأبيضُ للمرأةِ ينبوعُ جمالْ !
والخمرةُ ذاتُ الطعمِ الرائعِ
تتقطّرُ صافيةً مثل كريّاتِ البلورْ
فتجمّر في الكأسِ نقاط النورْ .
والقمرُ الأروعُ فوق نواظرنا
يتوالدُ
في الليل هلالاً بعد هلالْ .
هوذا الليلُ كثوبِ العرسِ
يهرهرُ زهراً أخضرَ فوق خدود الدنيا
والفجرُ يشقشقُ في المشرقِ أسراباً أسرابْ .
وأريجُ الرمانِ يفوحُ على وجهِ فتاةٍ
جهجهَ في شهوتها المشمشُ
وارتعشَ الطلُّ
فراحت ترقصُ كالغيمةِ فوقَ رؤوسِ الأشجارْ
فيم سكوتك يا زريابْ ؟
اعزفْ نغماً مزماريّاً يطربُ هذا القلبَ
لترقصَ روحُ العاشقِ
كالكروانِ على رجعِ زغاريدِ المزمارْ !
خلّ ضفائرَ أنثاكَ ترفرفُ فوق جمالِ الكونِ
شرائطَ أفراحٍ
وزرازيراً وطيوراً بعد طيورْ !
فالفتياتُ نوافيرٌ
تتعاشقُ في رقصتها المائيّةِ
والتفاحُ صدورْ .
ماءٌ أبيضُ ماءٌ أزرقُ
ماءٌ يشربُ ماءَ النورْ ..
وأغانينا في سكراتِ الأعراسِ
نواعيرٌ
تتوقّفُ ثم تدورْ .
أسمعنا عزفكَ !
موسيقاكَ ذراعٌ بيضاءُ تهزُّ سريرَ النائم
في فردوس أغاني ،
وتلامسُ أقداحٍ تتصادى فوق صواني ..
وأغانيكَ نساءٌ تأخذني بين يديها الدافئتينِ
وترضعني ماء النورْ .
فعناقيدٌ تتدلى فوق فمينِ رضيعينِ
ولوزٌ يتسلّقُ سورْ .
.. عصفورٌ يتعذّبُ في مزمورْ !
موسيقاكَ حبيباتُ المشمش
تتساقطُ من غصنِ الصبحِ
وحبّاتُ الخوخِ المجروحْ ..
وسحابةُ صيفٍ هيفاءُ
تردُّ نسائمُها الروحْ ..
موسيقاكَ دموعٌ تنزفُ من قلبِ صديقٍ صُدّوقْ !
فيمَ سكوتكَ والأقمارُ على بركِ الشهوةِ
تلعبُ بين أيادينا
لعبَ العاشقِ والمعشوقْ ؟
فيم سكوتك يا زريابْ ؟
حنجرةُ العاشقِ عصفورٌ في الشوقْ .
حنجرةُ المرأةِ سكّرةٌ ذابت
في ماءِ العنّابْ .
فالأجراسُ تدقّ وزيزانُ الحبّ تغني في الورد
وريشاتُ النورِ تلوّنُ بالأخضرِ والأزرق والأحمرِ
بستانَ شروقْ ..
والأرواحُ حماماتٌ تتغازلُ نشوى
في الأفقِ الخلاّبْ .
سامحتُ سكوتكَ بالقلبِ اليائسِ يا زريابْ !
ما شرّقَ بالحزنِ الأترابُ
ولا غرّبَ بالشوقِ الأصحابْ !
ماذا أخذَ الحبُّ من الأحبابِ
وماذا خلّى للعشقِ الغيّابْ ؟
لم نفتحْ بابَ القلبِ على القلب
ولا باب الروح على الروح
لنقطعَ دربَ العمر سكارى
والبابُ على البابْ !
لم نفتحْ غيرَ شبابيكِ الليل على الأغرابْ !
لكنّي الآنَ مليءٌ بالصمتِ الربانيّ
وحزنِ العودِ
أضمُّ غناءَ البلبلِ في غيبوبةِ ساعاتِ اللوزِ
وأغفو كالكأسِ على ماءِ السهر الظمآنْ !
يا ربَّ العودِ أنا الآنْ
أسمعُ موسيقايَ المهموسةَ في نفسي
تتسقسقُ بين نعاسِ الليلِ
وإغفاءةِ روحِ السكرانْ !
فأرى قديسًا يبكي في جوفِ كمانْ !
يازريابُ لقد راقَ الليلُ
وشاعَ سكونٌ أزرقُ في الغسقِ السرانيّ
وراحَ السكرُ يروقْ .
صافٍ عزفكَ في إغفاءةِ روحِ الشاعرِ صفوانْ .
فأذبني ذوبانَ الغصّةِ في صعداءِ القلبِ
وأسكرني بأغانيكَ
لأسرحَ فوق جمالِ العالمِ فوقْ !
أسكرني كي أتمايلَ كالنساكِ
على تعزيمةِ موسيقاكَ
فأجنحةُ البهجةِ ترقصُ دائرةً
كفراشاتٍ حول سراجِ النومِ
وقلبُ الشاعرِ يرقصُ كالمتصوّفِ
فوقَ بساتينِ الكرزِ الممشوقْ !
أقْدَسُ ساعاتِ الغبطةِ
أن تتراءى في إشراقةِ نورٍ
رؤيا الخالقِ للمخلوقْ ..
أجملُ حالاتِ العزلةِ أن نسمعَ في الموسيقى
أصواتَ أحبّتنا الغيّاب ْ .
إعزفْ نغماً مزمارياً يا زريابْ !
فأنا مغمورٌ بجمالِ سماواتِ الصيفِ
أناغمُ روحي مع روحِ الكونِ
كأنّي قدّيسُ الدنيا العذراءِ ورائيها
وابنُ الإصغاءِ على شباك لياليها
وحفيدُ مراثيها حين تدورُ الراحُ
مراحاً بعد مراحْ .
في الصبحِ يطهرُ رؤياي شروقُ الشمسِ
وفي الليلِ أطهرُ قلبي بأهلاّتِ هلالِ الأفراحْ
مجروحاً أتلامسُ مع صوتِ الناي
وشفّافاً مع تعزيمةِ موسيقى
أتلامسُ مع أنثاي إذا سكرَ الغيتارُ
تلامسَ أقداحْ .
نتلامسُ بالأعينِ في غيبوبةِ سكرٍ بيضاءَ
فتسقيني العسلَ الأبيضَ من عينيها المسكرتينِ
وأسقيها من عينيّ لقاحَ التفاحْ .
ما أحلى أن نتلامسَ بالأرواحْ !
أن نتهامسَ مثل كناريينِ على زهرة ِدوارِ الفجر،
كطاوسينِ عروسيّينِ
يرفّانِ على إطلالةِ شمسٍ بصباحْ .
فالليلُ خياليٌّ ،
والحزنُ سماويٌّ والبجعاتُ النشوى
تتطايرُ في جوّ السهرةِ كالأرواحْ !
فلماذا أرهفُ سمعي في ساعاتِ الصمت ِ
فلا أسمعُ موسيقاكَ
ترخّمُ في الريحِ حفيفَ الأحبابْ ؟
يا زريابَ الساكتَ في صدري
ما بعدَ جراحِ الشاعرِ في العشق جراحْ !
ما من سببٍ للعشقِ ولا أسبابْ .
كانت نقراتُ العودِ الباكي
تترقرقُ مثل حبيباتِ الأمطارِ على خشبِ البابْ
فلماذا انقطعَ الصوتُ
وصرنا كباراً
نتأملُ من شباكِ الشيخوخةِ كالأغرابْ ؟
نتأملُ والأعينُ تغرورقُ بالدمعِ
خريفِ العمر الحافي
و رحيلَ الأسرابْ !
سامحتُ غناءكَ بالقلبِ اليائسِ يا زريابْ !