حجر الفراغ - طالب همّاش

الليلُ "أيّوبٌ" حزينٌ فوق مئذنةِ المدينةِ‏
والمقاهي وقتها مرٌ كأوراقِ الخريفِ‏
يقيمُ عزلتها على حجرِ الفراغِ اليائسونْ.‏
يتمرّسونَ بطعمِ علقهما الأحدِّ‏
ويلقمُ التنباكُ حلمته المريرةَ‏
للشفاهِ البله في سأمٍ‏
فيبكي الوقتُ صفرته‏
على صوتِ النراجيلِ الضريرةِ‏
ثم يذبلُ في العيونْ.‏
لم يبقَ في أرجائها‏
غيرُ احتضارٍ أسود القمصانِ‏
يحملهُ هواءٌ مالحٌ‏
كالنعشِ في طرقاتها الكسلى‏
ويمشي خلفه المتسكّعونْ.‏
وَهَنَتْ كهولتها‏
فمالتْ كي تحالفَ وحشةَ الأصنامِ..‏
إمرأةٌ تنصّبُ قلبها البدويَّ قدّيساً‏
على الأشواكِ..‏
لا قمراً لينفخَ من بقايا الروحِ‏
في ظلمائها السوداءِ‏
لا ناياً ليغمسَ كالشموعِ الخضرِ‏
في ساعاتها الجرداءِ إصبعه الصغيرةَ‏
كي يعكّرَ ماءها الساجي‏
بدمعاتِ العيونْ.‏
لا بائعُ الآسِ العجوزُ (مشرَّدٌ)‏
في شارعِ العشاقِ‏
لا امرأة تطرّزُ من ضفائرها‏
أهازيجاً لأيلولَ الكئيبِ..‏
سوى خيولِ الدمعِ‏
تركضُ خلفَ أشجارِ الخريفِ جريحةً‏
والناسُ في أوقاتهم مثل الدمى مستبهمونْ.‏
لا صوتَ أغنيةٍ يطيّر بُلبلاً‏
في زرقة الروحِ الحزينةِ‏
كي يفكّرَ عاشقٌ بالانتحارِ‏
على ضفائرِ من يحبّ..‏
ولا حمائم كي يطيّرها رسائلَ للغيابِ‏
العاشقونْ.‏
فقط ارتجالٌ ضائعُ الأصوات‏
يرفعهُ ندامى اليأسِ كالكهّانِ‏
في الأفقِ المضرّجِ بالفراقِ الصعبِ..‏
والحزنُ المراوغُ يقتفي أعمارهم كالذئبِ‏
في برّيةِ الشمس التي غربت،‏
ويعوي في ظلامٍ لا يخونْ.‏
الليلُ أيوبٌ حزينٌ والمراثي‏
كلها نضبتْ وأبلاها الذبولُ..‏
وعندّ أطرافِ البحيرةِ‏
يجلسُ الرجلُ المصابُ بشهوة الموتِ‏
العميقةِ‏
شاخصاً في آخرِ الأمواجِ..‏
يستبكي زماناً ضائعاً..‏
بين الحقيقةِ والجنونْ!‏
فيرى يداً بيضاءَ‏
تطلعُ من شقوقِ الغيمِ‏
رافعةً قناديلَ الكآبةِ‏
فوق مئذنةِ الخليقةِ‏
ثم تغرقُ في دمِ الحنّاءِ‏
مطبقةً أصابعها على شمسٍ‏
تغّيبها الظنونْ.‏
ويرى على شجر الأسى العالي‏
حمامةَ (مريمٍ) مذبوحةً بالنايِ‏
والحزنِ الأشفّ..‏
يضيئها قمرُ العشيّاتِ الجريحُ‏
بضوئهِ المشلولِ...‏
والغيماتُ تحملها على كفّ الندامةِ‏
كي يطّيرها إلى مدنِ الشقاءِ اليائسونْ!‏
هرمٌ كنسرٍ‏
لم يعدْ يلوي على شيءٍ‏
سوى التحديقِ في صحرائهِ الجرداءِ..‏
في الشمس التي مالت لتغربَ في انفرادٍ‏
يائسٍ‏
-لم تبقَ غيرُ ضريبةٍ للحزنِ باهظة الأسى..‏
وتغورُ في البئرِ الحياةُ، ويستريح الشاغرونْ!‏
ويدقُ ناقوسُ العشيّةِ نادباً‏
في وحشةِ الآحادِ أصداءَ الكهولةِ:‏
لم تكنْ هذي الحياةُ سوى‏
انتظارٍ ناقصٍ، ونداءِ حبّ خادع..‏
والناسُ في ظلماتها مستوحشونْ!‏
لم ينفعِ التحديقُ عن بُعدٍ‏
بأنصابِ الغيابِ،‏
ووقتها المنهوبِ بالخسرانِ يا أبتي!‏
... ويجلسُ عند أطراف البحيرةِ منشداً:‏
كلّ الذين رأوا الحقيقةَ في كهانتهمْ‏
أصابهمُ الجنونْ!‏