تغريبة الندم - طالب همّاش

كالذئبِ أعدو خلفَ أطيافِ الغيابِ‏
أطاردُ الأصداءَ من جبلٍ إلى جبلٍ‏
وأنحتُ في جذوعِ الحورِ خسرانيْ.‏
لكأنَ هذي البيدَ مرثاتي الطويلةُ‏
والرياحُ محادلُ الأشجانِ عن جَلَدِيْ وصوَّانيْ.‏
متأبّدٌ في الريحِ‏
أرعى رجعَهَا الموجوعَ‏
في بريَّةٍ منهوبةِ الأمطارِ‏
لا غيمٌ يسجِّيني على نهرٍ‏
لأتبعَ مسقطَ الرمانِ،‏
لا قزحٌ يلوّحُ في أعالي الصحوِ‏
قمصاني.‏
أغلقتُ خمسَ أصابعٍ في الليلِ‏
ثم فتحتها‏
فإذا بشمسِ العمرِ غاربةً،‏
وأيلولِ الفراغِ مدويّاً..‏
والأرضُ تنأى عن مواعيدي (وتنآني).‏
"أبداً أجرُّ ندامتي خلفي"‏
وأنهدُ في الفراقِ‏
كجرحِ جيتارٍ عتيقٍ‏
شقَّهُ في الصدرِ سكّينُ النغمْ.‏
أبداً يحالفني الألمْ!‏
وأنا أجيرُ طفولةَ العشاقِ‏
من ثكلِ الزمانِ،‏
وأرفعُ الشهواتِ ضدَّ الموتِ،‏
والأشعارَ في وجهِ الهرمْ.‏
أبداً أعيدُ إلى الخريفِ دموعَهُ الصفراءَ‏
أسندُ شَجْرَةَ الحورِ العتيقةِ في الغروبِ‏
مسلّماً روحيْ لأسرابِ الزغاريدِ الكليمةِ‏
بالندمْ.‏
أنا قيسُ هذا الليل،‏
قدّيسْ الهلالِ وطفله الباكي،‏
وحزنُ قميصهِ المسفوحِ فوقَ الماءِ‏
من دمعٍ ودمْ.‏
أبداً أقاتلُ وحشةَ العشاقِ‏
بالتحديقِ في كأسٍ‏
يزاوجُ زهرةَ الرمانِ بالأحزانِ‏
في روحيْ‏
ويلطمُ بالرنينِ العذبِ‏
أقفيةَ العدمْ.‏
هل كانَ ذنبي أنني‏
(أحببتُ حتى الموت) أن أبكي‏
شقائي فوق صدرِ العامريةِ‏
كي أحدَّ من الألمْ؟‏
هل كانَ ذنبي أنني أغفيتُ أحزاني‏
على نهدٍ كريم اللوزِ،‏
أبيض من ثريّاتِ الذهبْ.‏
فلمستُ في النهدينِ أزرارَ البنفسجِ‏
وهي تزهرُ مثلَ حبّاتِ العنبْ.‏
فشعرتُ أنَّ الصبحَ يلعبُ بالحمائمِ‏
في دروبِ الروحِ،‏
والغزلان تركضُ في براري الفجرِ‏
كالشهواتِ،‏
والرعشاتُ تذروني كموّالٍ على إبر القصبْ.‏
وسمعتُ صوتاً من أعالي الغيبِ‏
ينهاني عن التفاحِ:‏
لاتمسسْ هديلَ الريحِ في خصرِ امرأهْ!‏
لكنني ألفيتُ نفسي شارداً في البيدِ‏
أتبعُ صوتها النائي،‏
ويتبعني صدايْ.‏
كنواحِ مزمارٍ جريحٍ‏
في عراءِ الأرضِ‏
يزفرُ حزنَهَ وجعاً ونايْ.‏
أبداً يرجّعني صدايْ!‏
ويردّني نهرٌ إلى قمرٍ‏
يسافرُ في صبايْ.‏
فتهيمُ بيْ ليلايَ‏
بنتُ الدمعِ والبجعِ الحزينِ على ضفافِ الصبحِ،‏
أجملُ صدفةٍ للموتِ‏
أين عرفتِ هذا الطعنَ بالسكِّينِ‏
ياامرأة الحنينِ المرِّ؟‏
كانَ القمحُ يتركُ شعرَهَا عبرَ السنابلِ،‏
والأنوثةُ تصطفيها من دموعِ الوردِ‏
أختُ الكحلِ وابنتهُ‏
وشهرٌ من غناءْ.‏
شهرُ الحساسينِ السماويُّ‏
الذي يرمي بزرقتهِ سحاباتِ المساءْ.‏
ونداءُ أجراسٍ لأعيادِ الأناجيلِ‏
التي تنداحُ كالتسبيحِ في سَمْعِ الحداءْ.‏
وأنا عماءُ الغيمِ في أفقٍ من الصبواتِ‏
أفردُ راحتيْ للحبِّ‏
كالصقرِ الجريحِ‏
كأنَّ هذا القفرَ مرآتيْ على الأيامِ،‏
والفقدانَ توأمُ حسرتيْ‏
عندَ الفراقْ.‏
أبداً يخالفني العراقْ!‏
في حبِّ ليلى‏
هلْ حرامٌ أن أراها؟‏
كالحمامةِ في إناءِ الصبحِ‏
تغمسُ ريشةً زرقاءَ في حبرِ الأغاني،‏
ثم تدرجُ بالهديلْ.‏
بيضاءُ لوَّحها بسمرتهِ سحابُ الصيفِ‏
فاشتعلتْ‏
وباكرها الرحيقُ السلسبيلْ.‏
لكأنما قلبيْ لشدِّةِ حزنهِ‏
راحتْ تطاردهُ الثعالبُ‏
في اصفرارِ الدمعِ‏
لا قمرٌ ليبكي أمَّهُ في الليلِ‏
لا ضوءٌ يناديهِ تعالَ..‏
يدورُ هذا العمرُ في عجلٍ‏
ويركضُ في عراءِ الطينِ ذئباً نابحاً‏
ينعى أناجيلي وينعاني.‏
وأنا أردّدُ في الرياحِ ضراعتيْ‏
كالشاعر الأعمى،‏
وأشردُ في فراغِ المغربِ القانيْ.‏
لكنني والليلُ يأفلُ بالغناءِ أنوحُ‏
وردَ جمالِها المفقودَ،‏
والحزنَ الذي راءى انكساراتي‏
وراءاني‏
لكأنني فزاعةٌ للموتِ في حقلٍ من الغربانِ..‏
تخطئني نبالُ الشهوةِ السوداءُ‏
يقتتلانِ‏
في روحي الظلامُ مع النهار،‏
الشوكُ والأزهارُ‏
لكني ألامسُ في شروقِ الشمسِ‏
قطناً رائعَ الأهدابِ‏
يغمرني بفضتهِ..‏
وألمحُ زهرةَ العبَّادِ‏
طالعةً كسورةِ يوسفٍ في وجهِ‏
إلحادي وإيماني.‏