أرملة مغني الرباب الحزين - طالب همّاش

حداءٌ بعيدٌ على مغربِ الشمسِ‏
يُصدي على شجرِ الوحشةِ المرِّ،‏
والغيمُ يعبرُ من خلفِ نافذةِ العمرِ‏
مثل بقايا المواويلِ...‏
لم تبقَ إلا أقلُّ الرياحِ نحيباً،‏
وغيرُ هشيرٍ لعشِّ الحمامهْ.‏
ولم تبقَ غيرُ البراري التي‏
يهرعُ القلبُ نحو حواكيرها‏
فاغراً فاهُ كالذئبِ،‏
وهو يراكضُ أنثاه‏
في شهوةِ الموتِ‏
حتى تقوم القيامهْ.‏
وغيرُ صراخِ الحنينِ المريرِ‏
إلى ما فقدناه في لجّةِ الليل،‏
والصلواتُ التي تتقطّرُ تحتَ الصفاءِ‏
الإلهيّ أدعيةً ويتامى.‏
كأنْ طارَ طيرُ صباحي الحزينُ‏
على حقلِ آسٍ جريحٍ‏
فهوَّم في الأفقِ الطلقِ كالسيفِ،‏
ثم تهاوى على زهرةِ الروحِ‏
مثلَ قميصِ الندامهْ.‏
* * *‏
حداءٌ شجيُّ المواويلِ‏
يطرحني كالربابةِ‏
في طرقاتِ الرحيلِ‏
ولكنني بعدَ أنْ يتعبَ العمرُ‏
أصرخُ من ظمئيْ:‏
اسقني الماءَ عمرو!‏
اسقني الماءَ!‏
أحسبُ أني أراها‏
أرى قلبها واقفاً في الشمالِ الحزينْ!‏
فتاةٌ بعمرِ الرياحينِ.‏
وخّطها الشيبُ،‏
واصفرَّ من حولها ورقُ العمرِ‏
والياسمينْ.‏
كأنْ مرَّ يومانِ أو بعض يومٍ‏
على رحلةِ الأمسِ‏
حتى غدتْ حمصُ قفراءَ‍‏
أينَ الحزينةُ بينَ النساءِ؟‏
وأين مآذنها الباكياتُ‏
على قمرِ العشقِ؟‏
كم مرَّ منها على الأرضِ؟‏
مرَّ زمانٌ مديدٌ‏
فهذي البيادرُ ممحوّةُ القمحِ،‏
والأرضُ موغلةٌ في السنينْ.‏
وحمصُ حنينُ الغريبِ إلى الموتِ!‏
محكومةٌ بالنواحِ نواعيرها السودُ،‏
والحورُ وهو يميلُ مع الريحِ‏
كامرأةٍ خاطئهْ..‏
والهواءُ الأحنُّ على السروِ عند الغروبْ.‏
كذئبٍ من الدمعِ يقعي بجانبها‏
حزنُهَا البدويُّ‏
ويغمضُ عينينِ معتمتينِ على الموتِ‏
في جزعٍ‏
مثل فزاعةٍ للنصوبْ.‏
وحمصُ لفيفُ الحمامِ‏
الذي نقتفيهِ إذا حاقنا الموتُ،‏
والخمرُ قبلَ ارتعاشِ النمالِ‏
على خَدَرِ الروحِ،‏
والسكنُ الأبديُّ إلى امرأةٍ من ذنوبْ.‏
وحمصُ الفتاة التي خصَّها الوعرُ بالثكلِ‏
حتى استمالتْ إليها المواويلَ!‏
عَمَّرَهَا الليلُ من شوقهِ للتأوّهِ.‏
كي يتأمّلَ رجعَ المياهِ على ركبتيها،‏
ويغسلَ في جدولِ الحبِّ أعضاءهُ بالشقاءْ.‏
وحمصُ امرأهْ‏
أبدعتها البحيراتُ‏
كي تتهادى عليها طيورُ الإوزِّ الحزينُ،‏
ويأتمَّ شاطئها الأنبياءْ.‏
وحمصُ البناتُ اللواتي يزغردنَ‏
قبلَ تفتّحِ ريحانهنَ على شهوةِ الحزنِ،‏
والانتظارُ المريرُ لموجِ الأنوثةِ‏
وهو يضرّجُ بالكحلِ ضلعَ النساءْ.‏
فتاةٌ تسيّجُ حقلاً من القمحِ بالقطنِ‏
كيما تنادي على قمرٍ ضائعٍ‏
في سوادِ السماءْ.‏
قديماً أهالَ عليها الحداةُ عتاباتهمْ‏
واستحالوا رعاةً‏
يطوفونَ حول الطلولِ‏
وهم يقرعونَ طبولَ الفراقِ‏
ويرثونَ كلَّ المدنْ.‏
وجثا قربَ مرقدها الأبديّ‏
مغنِّي الربابِ الحزينُ‏
وراحَ يموّلُ في ظلمةِ الليلِ‏
للحبِّ والحزنِ‏
ذاكَ الغناءَ الشجيّْ.‏
فعلَّمها الحزنَ‏
قبلَ بكاءِ الحمامِ على راحتيها،‏
وقبلَ رحيل المحبيّنَ صيفاً‏
إليها لينتحروا‏
تحتَ حرِّ حزيرانها الشبقيّْ.‏
وقبلَ صعودِ الحليبِ إلى نهدِ (وردٍ)،‏
وتلويحها الساحليِّ على شجرِ الهذيانِ‏
ومسِّ ابن رغبانَ بالجنِّ‏
وهو يضرّجُ بالندمِ المرِّ وجهَ‏
شقيقِ الفراتِ الشقيّْ.‏
فقامتْ إلى النهرِ تدعوهُ:‏
يا دائمَ الحزنِ عندَ جذوعِ النواعيرِ!‏
خذني بمجراكَ أرملةً للخريرِ!‏
الذي رعرعتهُ مواويلُ أمي‏
وهي تهزُّ سريري،‏
وردّدهُ صوتُهَا القرويّْ.‏
أَبى النهرُ أن يتأوّهَ إلاَّ لمجراهُ بينَ الصخورِ..‏
شقيقُ الحقولِ الحزانى،‏
ووارثُ ذرفِ الدموعِ!‏
فأرختْ على كتفِ القمح صفرتها الساحليّةَ‏
فيما الضفائرُ شاردةٌ في مهبٍّ قصيّْ.‏
تموِّجُ في الريحِ ترجيعَهَا المستجيرَ‏
وتصرخُ عبرَ الفيافي‏
صراخَ الحنينِ إِلى المفتقدْ.‏
:أنا حمصُ‏
زهرةُ حنّائكم في ليالي الزفافِ،‏
وزهراءُ بنتُ الهديلِ‏
التي تتراقصُ مثلَ الزغاريدِ‏
فوقَ سماءِ الأحدْ.‏
أنا المستحّمةُ في نبعةِ الليلِ،‏
أولُ أنثى اشتهاها هلالُ الربيعِ‏
وصارَ حزيناً‏
يهيمُ على نفسهِ في الغيومِ‏
ولا يلتقي بامرأهْ.‏
أنا حمصُ معشوقةُ الشعراءِ‏
الذين مضى عمرهمْ في اقتفائيْ،‏
وضيَّعتهمْ في الطريقِ إليّْ.‏
ولكنها الآنَ ضلّيلةُ الألمِ المرِّ‏
متروكة للرياحِ ضفائرُهَا الهاشلاتُ،‏
ومجروحة روحها بالحداءِ الجنوبيْ.‏
ينوحُ القَطا في براري صباها الحزينةِ‏
من دونِ إلفٍ،‏
ويعدو ابن آوى المهجّرُ‏
في ظلمةِ الوعرِ‏
خلفَ فراديسَ ضائعةٍ،‏
ويشقُّ كما الطفل قمصانَهُ‏
لهلالِ المساءِ النبيّْ.‏
ويهرعُ نحو خرائبها في المغيبِ غريبٌ ونخلتهُ،‏
قرويٌّ وحنطتهُ،‏
جبليٌّ وسروتهُ راجعينَ‏
ليرثوا بها حزنها البدويّْ!‏
***‏
حداءٌ شجيُّ المواويلِ‏
يُصدي على شجرِ الوحشةِ المرِّ‏
والريحُ تلفحُ زيتونةَ الانتظارِ العجوزِ‏
ببابِ الأحدْ.‏
كأنْ حمص بنتٌ تدقُّ على بابِ‏
حبٍّ قديم.‏
وما منْ أحدْ.‏
غيرُ ذاكَ الخيالِ الذي يتراءى‏
على حائطٍ من ظلالِ الأبدْ.‏
ولكنها حينَ ينفتحُ البابُ‏
تلمحُ ظلاً ضئيلاً‏
محتهُ سنون الكآبةِ‏
يخرجُ من وحشةِ الصمتِ‏
ثم يسيرُ (ولا يلتقي بأحدْ).‏
فيا ليتَ تعرفُ أنّيْ‏
أنا ذلكَ الشبحُ المريميُّ الحزينْ‍‏
ويا ليتها حين تبكي الرياحُ على شجرِ الحورِ‏
تعرفُ أن نحيبَ الحواكيرِ رَجْعُ صدايَ‏
أنا البدويُّ الذي راحَ يحدو‏
على مغربِ الشمسِ:‏
لا تتركوني وحيداً‏
أقاتلُ وحشَ السنينْ!‏