أحزان الأعالي - طالب همّاش

لَوْ كَاْنَ للعشَّاقِ يا فَيْرُوْزُ‏
حزنكِ في الأعاليْ!.‏
لو كانَ للعشَّاقِ يا فيروزُ‏
شبَّاكٌ على النسيانِ‏
ما مالوا على الأحزانِ‏
وانحازوا إلى رَجْعِ الخريفِ‏
ليتبعوا كالغنمِ غزلانَ الشمالِ! .‏
لو كانَ للعشّاقِ أن يتألمْوا‏
في الريحِ‏
راحتْ روحُهُمْ تجري على الأنهارِ‏
كالحَسَرَاتِ! ..‏
لكنَّ البياضَ نبيُّهمْ في اليتمِ،‏
والرمانَ سنبلةُ الخيالِ.‏
لو كانَ أنَّكِ دمعة‏
لتسابقوا كي يذرفوها‏
فوقَ هُدْبِ البيلسانِ..‏
ليزهرَ الرمانَ‏
في شباككِ العالي!،‏
فدليِّهمْ إلى الياقوتِ!‏
كي يتعمّدوا بعد الكسوفِ‏
بصوتكِ المذروف‏
فوقَ الأرض ثلجاً من حنانْ! .‏
وترفَّقي بنحيبهمْ فوقَ السفرجلِ!‏
إن صوتكِ لا يمدُّ صلاتَهُ‏
إلا لنحلِ الصبح..‏
هل نرعى مع النحلاتِ‏
دمعَ التوتِ‏
من أيقونةِ الآهاتِ!؟‏
كي نُصغي إليه بفطرةٍ أعلى،‏
ونسمعَ كالحساسينِ البريئةِ‏
رَجْعَةُ في الأرجوانْ.‏
لا بدَّ من نايٍ‏
لنعرفَ أننا للحزنِ والنسيان!‏
فابكينا طويلاً‏
خلفَ أشجارِ الجنوبِ!‏
ولوّحي بإزاركِ الصيفيّ‏
من أعلى الغروبِ‏
وأطلقي طيرَ الصنوبر خلفنا يبكي،‏
لنتركَ دمعنا للأقحوانْ! .‏
لا بدَّ من قمرٍ وأغنيةٍ‏
ليصبحَ عاشقانِ‏
سحابةً،‏
وتصيرَ روحَكِ أرجوانْ.‏
لا بد من قمر شآميَّ الغناءِ‏
ليعرفَ العشاقُ أنهمُ..‏
نوارسُ فوق مئذنةِ الشآم..‏
وساحلٌ للقمح يسكنهُ الحمامُ.. وأنّكِ‏
تحتَ السماءِ سماوةٌ أخرى،‏
وفوقَ الأرزِ في أعراسِ زرقتنا‏
سنونوةُ الكمانْ .‏
لَمْ نسمعِ الأنهارَ ترفعُ بيلسانَ‏
خريرها المجروحِ‏
قبل الآن،‏
والمزمارَ يبكي في السكينة‏
موجعاً سكرانَ..‏
لَمْ نسمعْ سوى نوحِ الشحاريرِ الحزينِ،‏
ونغمةٍ سوداءَ تلقيها السحابةُ‏
في القصبْ! .‏
لَمْ نسمعِ الأشجارَ تنشجْ في الخريفِ‏
ولَنْ نَعِيْ‏
أن الأيائلَ من حفيفٍ،‏
والغناءُ (توائمٌ) بيضاءُ‏
في أرواحنا ترعى‏
دُمَيْعاتِ العنبْ.‏
غَنِّي علينا واتركينا كالبلابل! ،‏
فوق سطح الليلِ‏
يشربُ عمرُنَا من مائكِ‏
فيطولُ‏
والأقمارُ تتبعُ حزنَكِ المتروكَ‏
في أقصى السهولِ..‏
وحينما يأتي المسيحُ إلى ضريحِ الخبزِ‏
نُصبح نائحينَ ذويْ ضراعهْ،‏
ونعدُّ فوقَ سلالم الذكرى‏
حمائمَ من ذهبْ.‏
غني إذن!‏
غني ليولدَ عاشقانِ‏
من الهديل ويكبرانْ..‏
لتشبّ من أضلاعنا التعبى‏
نسائِمُ سنديانْ..‏
وتصيرَ قريتنا مساقطُ للسحبْ.‏
أنتِ الحداءُ المرُّ‏
إن كبرتْ مراثينا على الأشجارِ‏
أنتِ الوردُ إن شَرَدَتْ أيادينا وراءَ سحابةٍ..‏
ومواسمُ التفّاحِ بعدَ القمحِ‏
أنتِ البليلُ الباكي على أيلولُ،‏
أجراسُ النواعيرِ التي‏
تَحْدُو على قمر الغيابْ.‏
أنتِ الأغاني الراحلهْ..‏
وربابةُ الأحزانِ قبلَ دخولها في اللحنِ‏
أو جسدُ الكآبةِ راحلاً‏
قبلَ انقشاعِ الغيمِ‏
عن سفرِ السحابْ‏
أنتِ كتابْ الحزنِ مطوياً‏
على أشعارنا الأولى‏
فدلِّينا على الأشعار!‏
كي نختارَ قافيةً‏
تلائم يأسنا في الأرضِ،‏
أغنية تلائمُ موتنا فنموتْ!! .‏
أنتِ السكينةُ فوق سفحِ الليلِ فاردة يديها للنجوم‏
وفوقَ زهرِ نعاسنا شالاتُهَا الزرقاءُ‏
هادلةً بأحلامِ السماءْ.‏
أنتِ الكآبةُ‏
فوقَ عرشِ الحزنِ! .‏
نائحةٌ على الطيّونِ‏
ناياتُ اغترابكِ في عراءِ الريحِ‏
غنّي كي نتوبَ!‏
بلا ذنوبٍ‏
للأناجيلِ التي ضاعتْ‏
ونرمي بالأصابعِ للسكاكينِِ‏
الجريحةِ‏
كلّما طابَ الغناءْ!!‏
ما أجملَ الكلماتِ‏
وهي تطيرُ خبزاً من يديكِ إلى الشتاءِ! ،‏
وما أحنّ خريفها في الروحِ!،‏
والقمرَ المعلقَ في الليالي!‏
***‏
اليوم رهبانُ الحدا‏
مرّوا على العالي!!‏
لم يكسروا جرساً على قلبي‏
ولا انتبهوا لموّالي!!‏
يا ليتهم قمحٌ‏
لأتبعهم إلى أقصى السهولِ!‏
وليتهم رَحَلُوا‏
ليخلعني قميصُ الوحشةِ البالي!! .‏
لو كانَ للعشاقِ يا فيروزُ‏
حزنكِ في الأعالي!‏
أغمضتُ أجفانيْ لأختارَ اليمامةَ،‏
وانتحبتُ على النخيلْ!‏
وطرقتُ بابَ الصيفِ كالحطّابِ‏
كي تجتثّنيْ من غُربتيْ صفصافةٌ‏
ووهبتُ أنثى اللوزِ أحزانيْ‏
لترضعني الهديلْ!!.‏
وبكيتْ في أيلولَ‏
يا أيلولُ يا أيلولُ!‏
إني راهبٌ للريحِ‏
جرّحني الصدى،‏
وحمامةُ الريحِ الحزينةُ في النواحِ‏
غناءُ من هذا الذي يبكي على الإيقاعِ‏
نورسُهٌ الجميلُ؟! ..‏
وكلّما ملْنَا مع الأجراسِ نحوَ النومِ‏
في حزنٍ يميلْ!‏
يبكي كما لو قلتَ أنْكَ راحلٌ‏
ومكثتَ تنتظرُ الرحيلْ!! .‏
غنّي إذن!‏
لنعودَ مجروحينَ بالنعناعِ‏
نحو بيوتنا البيضاءِ في أقصى النخيلْ.‏
كلماتنا في الحَبّ‏
تأكُلُها العصافيرُ البريئةَ‏
والنجومُ (أيائل) ترعى على أرواحنا‏
عشبُ الأصيلْ.‏
***‏
والقمحُ يا للقمحِ يا فيروزَ‏
لو أنّ السنابلَ لا تموت!‏
لكنتُ أسلمتُ الرياحَ ربابتيْ‏
ليَبُحَّ صوتُ جَرِيرِهَا ،‏
وتركتُ شريانيْ على القيثارْ!! .‏
وتبعتُ صوتَ الناي للهندِ البعيدةِ‏
كي أحطَّ على مآذنها العتيقة‏
وهي تتركُ للصلاةِ بياضها،‏
وتطيّرُ الأشعارْ.‏
وصرختُ باسمِ الصيفِ‏
من أعلى التلالِ‏
أيا حقولَ القمح دلّينيْ‏
على الأمطارِ دلينيْ!‏
لأتبعَ كالغُلامِ الغضِّ أحزانَ الغيومِ!‏
كأنني طفلُ المواويل الذي ضاعَ ..‏
انتهتْ أيّام حزنيّ بالصدى،‏
وبكانيَ المزمارْ!!.‏
***‏
والعاشقُ الولهانُ يا فيروزُ‏
كالمنصور(1) يقتل نَفْسُهُ‏
وتَصُوْتُ كالنّاياتِ رَاحَتُهُ‏
على قمرِ الأعالي،‏
كلَّما كبرُ الهلالُ على هضابِ الحزنِ‏
وانحدرَ الحمامُ كسورةٍ ثكلى‏
على الأيّامِ‏
والعشّاقُ يا فيروزُ‏
موّالونَ خلفَ النهرِ كلَ العمرِ‏
يتبعَهْم سحابُ النصفِ من أيّارَ‏
كالأشجارِ..‏
والأجراسُ تُقرَعُ من تَصَاديْهَا‏
على الأبراجِ‏
فيما يستحيل القمحُ ساقيةً من الريحانِ‏
والرمّانُ يهُدي القمحُ شَعْرَ حبيبهِ البريّ‏
لا ترمي إزاركِ عن تلالِ الصيفِ يا فيروزُ!‏
كي يجدَ المدى قدّيسةً‏
لتهزَّ مهدَ بكائهِ،‏
وتطيرَ فوق سمائه الثكلى‏
يماماتُ البيادرْ.‏
لا تخلعيهِ ليتبعَ العشاقُ!‏
مسْحَةَ حزنهِ للغيبِ‏
أو ليظلَّ حاديهمْ يخبُّ أمامهم..‏
يمشونَ مثل أيائلِ الأحزانِ في دربِ الغروبِ‏
كأنهم غيمُ الحياةِ‏
يرافقُ امرأةً‏
تكرّرُ حزنَهَا بين المقابرْ؟!.‏
لا تخلعي حُلَلَ الصلاةِ!‏
ففي ليالي الصيفِ يطلعُ وجهكِ المسحورَ‏
من قمر الغيابِ،‏
يضيءُ أجراسَ البساتينِ‏
التي صلّتْ‏
ويحْدُبُ كالسحابِ على الشآمْ.‏
يا شامُ عادَ الصيفُ‏
غابَ الصيفُ مكتئباً‏
ومن قلبي يخلْصهُ البكاء!‏
ويسجدُ الكروانُ‏
خلفَ مآذنِ الصفصافِ مسكوتَ الغناءِ‏
ويبكياهُ على ربى صدريْ‏
حمامٌ زاجلٌ وغروبُ!.‏
يا شامُ عادَ الصيفُ‏
غابَ الصيفُ عن أسحارنا،‏
واستوحشَ الحسونُ‏
منسيْاً على ليمونةٍ صفراءَ‏
صيفٌ ناضج كالتينِ‏
يسقطُ في مياهِ الصبح كالقدّاح..‏
يمسحُ دمعه.. (نايٌ ونهرٌ عندليبُ).‏
ما أجملَ الزهراتِ تطفرُ كالحليب الطلِّ‏
من صدرٍ يطيبُ..!‏
فيروزُ يا فيروزُ!!‏
يعرفني غزالُ الصبحِ من حزني،‏
ويعرفكِ الغروبُ‏
* لمنصور: في لغة الصوفية شيخُ العطّارين .