يوميات مجنون - إبراهيم طيار

في كل يومٍ حينما أصحو..
أفكّرُ...
كم لبثتْ؟
يوماً وبعض اليومِ..
أم شهراً وأسبوعين..
أم سنةً..؟
أم التاريخُ نامَ معي ونمتْ
في كل يومٍ حينما أصحو..
أفتّشُ عن مكاني..
عن وجوديَ..
من أنا..؟
من أين جئتْ..؟
هل كنتُ حيّاً ثمّ متْ
أم أنّني استيقظتْ من موتي...
وعدتْ
أم أنني الآن ولدتْ
أم أنني مازلت في حلمي...وكابوسي..
لعلّي قد جننتْ!!
بل إنني حقّاً جننتْ
لا تضحكوا..
لا تسخروا منّي..
إذا ما قُلتْ:إنّي قد جننتْ
أنتم مجانينَ..
وكلُّ الفرقِ أنّي..
بالجنونِ قد اعترفتْ
في كلّ يومٍ حينما أصحو..
أكرّرُ كلّ أفعالي وأقوالي..
فليسَ هناكَ في أيّامِ عمري من جديدْ
إن أشرّقتْ فأنا سعيدْ
أو أمطرت فأنا سعيدْ
أو أبرقتْ..
أو أرعدتْ فأنا سعيدْ
أو خرّتِ الجدرانُ من حولي..
وطار السّقفُ..
واحترقَ الوجودْ
أبقى على الكرسيّ...
كالدبِّ البليدْ
أبقى أتابِعُ نشرة الأخبارِ في التلفازِ..
كالدبِّ البليدْ
فأرى بلاداً تشترى وتُباعُ..
في سوقِ النّخاسة كالعبيدْ
وأرى أناساً يُذبحونَ من الوريدِ إلى الوريدْ
وأرى النخيلَ ممدداً فوق الثرى..
يبكي على زمنِ الرّشيدْ
وأرى الدماءَ تسيلُ..
فوقَ سريرِ هارون الرّشيدْ
فأظلّ مصلوباً على الكرّسي..
كالدبّ البليدْ
ويظلّ وجهي شاحباً..
ومشاعري مثل الجليدْ
وأقولُ:ما شأني أنا..؟
مادام رأسي سالماً..
فأنا سعيدْ
في كلِّ يومٍ حينما أصحو ..
أنام
عينانِ مغمضتانِ..
أمشي في الزحامْ
كجميعِ من يمشونَ..
أمشي في الزحامْ
جثثٌ..
و لكن لا تصدّقُ أنّها جثثٌ..
تَراها تدّعي بتكلّفٍ..
أنّ الحياة تسيرُ..
والأيّامَ تمضي في سلامْ
فعلاً...
أرى الأيّامَ تمضي في سلامْ
عبثٌ هو التّفكيرُ..
من بعدي أنا الطّوفانُ..
والزلزالُ..
والإعصارُ..
والموتُ الزؤامْ
عبثٌ هو التفتيشُ عن ناجينَ..
في هذا الحطامْ
عبثٌ..
وما شأني أنا..
إن ماتَ جيش الفتحِ جوعاً..
فوقَ مأدبة الّلئامْ
أو حاصرَ الإسبانُ آخر قلعةٍ..
أو احرقَ الرّومانُ آخرَ خيمةٍ..
أو عادَ هولاكو إلى بغدادَ..
يحملُ سيفهُ للانتقام
ما دامَ رأسي سالماً..
و وسادتي ريش النّعامْ
ما دُمتُ خارج لعبة التّاريخِ..
ما دامتْ يدي في الماءِ..
ما دام الهواءُ يمرّ في رئتي..
ونبض القلبِ يعملُ بانتظامْ
ما دام ثمّة من يُذكرني بميلادي..
ويُشعلُ شمعة لي كلَّ عامْ
سأظلُّ دوماً أدّعي..
أنّ الحياةَ تسيرُ..
والأيّامَ تمضي في سلامْ
في كلِّ يومٍ حينما أصحو..
تظلُّ إرادتي مطروحةً فوق السّريرْ
مهما جرى...
مهما جرى...
ليست تثورُ..ولا تُثيرْ..
أولم أروّضها إلى أن أصبحتْ..
من فرطِ ما روّضتها..
مثل الدجاجةِ والبعيرْ
أولم أعلمّها أنا..
-من بعدِ من كانت حصاناً أشهباً-
لغةَ الحميرْ
أو لم أحولها أنا يوماً..
إلى عبدٍ فقيرْ
يرضى بكلِّ مصيبةٍ..
ويقولُ:لي ربٌّ كبيرْ
لا شكَّ لي ربٌّ كبيرْ
لكنه ربٌّ غيورْ
لم يرضَ لي هذا المصيرْ
ويُريدُ منّي أن أقاومَ..
أن أظلَّ مرابطاً عند الثّغورْ
ويريدُ منّي أن أقاتل باسمهِ..
أو أضعفَ الإيمانِ..
أن أدعو الرّجالَ إلى النّفيرْ
ويُريدُ منّي أن أحطّمَ عقدةَ العبدِ الفقيرْ
وثقافة الموتى..
وفلسفةَ القبورْ
ياقومِ..
إنّي قد كفرتُ...
بكلِّ أصنامي الّتي قد كنتُ أعبدها..
وأهديها الذّبائحَ والنذورْ
وكفرتُ بالخوفِ الّذي..
قد كانَ يلبسني كجنّي مريدٍ من عصورْ
وكفرتُ بالوهمِ الذي..
أشعلتُ يوماً عند مذبحهِ البَخورْ
وكفرتُ بالعُمرِ الذي..
ضيّعتهُ فوق السّريرْ
يا أيّها الكابوسُ..
إنّي قد قتلتكَ..
واقتلعتُ نباتكَ المغروسَ فيَّ من الجذورْ
إنّي أنا النسرُ الّذي..
ما عادَ يرضى كالقوارضِ بالجّحورْ
إنّي أنا الحرفُ الذي..
سيدّقُ كالسّكينِ أبوابَ الصّدورْ
وأصابعي..
كأصابعِ الحجّاجِ..
يخطبُ فوقَ منبرهِ..
يشيرُ إلى الحناجرِ والنّحورْ
وقصيدتي – ميسونُ -قصّتْ شعرها..
فوقَ السّطورْ
في كلِّ يومٍ حينما أصحو..
سأصحو مثل بركانٍ يثورْ
سأقومُ من قبري..
وأصرُخُ بين آلافِ القبور..
يا كلَّ من ماتوا أفيقوا...
إنّه يومُ النُشورْ
يا كلَّ من ماتوا أفيقوا..
إنّهُ يومُ النُشورْ