صفرٌ على الشّمالْ... - إبراهيم طيار

بدايةً..
يا قارئي هبْ أنّني مجنونْ
وأنّكَ الفاضلُ و العاقلُ ..
والحكيمُ والرّزينْ
هب أنّني مراوغٌ...
وكلَّ ما أتقنهُ ذرَّ رمادِ الشّعرِ في العيونْ
هب أنّني..
لا أكتبُ الشّعرَ..
ولكنْ أزرعُ الحشيشَ في دفاتري..
وأزرعُ الأفيونْ
وأحقنُ الآهاتِ في آذانِ قرّائي..
فيسْكرونْ
.
هبْ أنّني ضبعٌ..
وقدْ أخفيتُ عُرفَ الضّبعِ..
تحتَ جبّةِ المسكينْ
و أنّني ذئبٌ..
وقدْ خلعتُ جلدَ الذّئبِ..
والتحيتُ..
واعتمرتُ مثلَ ناسكٍ..
عمامةَ اليقينْ
.
هب أنّني مهرّجُ..
أدوّرُ الحروفِ كالكراتِ والصّحونْ
أقفزُ مثل القردِ..
والقرّاءُ يضحكونْ
أمشي على السّطورِ..
أو أمشي على الحبالِ..
والقرّاءُ يضحكونْ
.
هبْ أنّني مشعوذٌ..
أروّضُ اليراعَ كالأفعى..
فيَعجَبونْ
أقطّعُ النصَّ إلى مقاطعٍ..
وأشطرُ البيتَ إلى شطرينِ بالسّكينْ
أبعثرُ الأسماءَ والأفعالَ في قبّعتي..
أهزّها..
أهزّها..
فتخرجُ القصيدةُ العصماءُ من قبّعتي..
صحيحةَ الأوزانِ..
والقُرّاءُ يَعجَبونْ
فأنحني تواضعاً أمامهمْ..
وهمْ يُصفّقونْ
.
هبْ أنّني..
وأنّني..
وأنّني
لا فرقَ..لا يهمّني
إنْ كنتَ قدْ عرفتَ أو جهلتَ مَن أكونْ
لا فرقَ..
فالمُهمّ أنْ تعرفَ من تكونْ
.
بدايةً..
يا قارئي من أنتَ..؟
من تكونْ؟
أنظرْ إلى المرآةِ..
حدّقْ جيّداً في وجهكَ الحزينْ
في الفمِ..
في الأحداقِ..
في الجّبينْ
من أنتَ..؟
من تكونْ؟
صِفراً على الشّمالِ..
أم صفراً على اليمينْ؟
.
عذراً إذا أغضبكَ السّؤالُ...
فالجّميعُ من أسئلتي الخرقاءِ يغضبونْ
لكنّني أنسى..
وهمْ ينسونْ
وذاكَ أمرٌ شاعَ..
حتّى صارَ كالرّوتينْ
.
أذكرُ أن "إسرائيلَ " قصفتْ..
قانا ومَرْوحينْ
فاجتمعَ "الأصفارُ " في شوارعِ العواصمِ العشرينْ
كالسّحبِ السّوداءِ غاضبينْ
فأبرقوا..
وأرعدوا..
وأمطرتْ سماؤنا بينَ المحيطِ والخليجِ..
الدّمعَ والأنينْ
وبعدَ يومٍ واحدٍ..
تبخّرَ الدّمعُ مع الأنينْ
تبخّرَ الأصفارُ من شوارعِ العواصمِ العشرينْ
تبخّرتْ مكبّراتُ الصّوتِ..
والخيامُ والأعلامُ والأضواءُ..
من شوارعِ العواصمِ العشرينْ
تبخّرَ المحيطُ والخليجُ..
والسّهولُ والجّبالُ..
والصّحراءُ..
والعواصمُ العشرونْ
وظلّتِ الأشلاءُ والدّماءُ تحتَ الرّدمِ..
في قانا ومَرْوحينْ
ألمْ أقلْ:أنسى..
وهمْ ينسونْ
وأنّ ذاكَ شاعَ..
حتّى صارَ كالرّوتينْ
.
يا قارئي الغارقَ في بحرٍ من الظّنونْ
لا قشّةً في البحرِ..
قد تُنجيكَ من سؤالي اللعينْ
أُعيدهُ..
من أنتَ..؟
من تكونْ؟
ومن أنا أكونْ؟
ونحنُ منْ نكونْ؟
والوطنُ الكبيرُ ما يكونْ؟
صفراً على الشّمالِ..
أم صفراً على اليمينْ؟
حياتنا روتينْ
وموتنا روتينْ
والدّمعُ في أحداقنا روتينْ
وجثثُ الأطفالِ في أخبارنا روتينْ
والغضبُ الموجّهُ المدروسُ..
والتّخاذلُ الموجّهُ المدروسُ..
في إعلامنا روتينْ
وقصفُ "إسرائيلَ " في غزّةَ أو جِنينْ
وصوتنا الغائرُ في الأفواهِ..
حتّى أعمقِ الأعماقِ في البطونْ
وذُلّنا الناشرِ في عظامنا..
كسينِ "نستكينْ "
وخوفنا..
وحرصنا على حياةِ خوفنا..
روتينْ
.
يا قارئي..
أريدُ أن أعرفَ من أكونْ
أريدُ أن تعرفَ من تكونْ
أريدُ أن نعرفَ من نكونْ
صفراً على الشّمالِ..
أم صفراً على اليمينْ؟
.
بدايةً..
هلْ نحنُ أحفادُ صلاحِ الدّينْ؟
يبدو السّؤالُ نكتةً سخيفةً..
في زمنٍ يختصرُ الحياةَ في بطاقةِ التّموينْ
لكنّني مجنونْ
ألمْ أقلُ بدايةً..
يا قارئي هبْ أنّني مجنونْ
إنّ الذي بيني وبينَ القدسِ..
من قرونْ
إنّ الذي بيني وبينَ الأرضِ والسّماءِ..
والسهولِ والجّبالِ..
والصفصافِ والزّيتونْ
إنّ الذي بيني وبينَ جدّي..
الجّندي في جيشِ صلاحِ الدّينْ
إنّ الذي بيني وبينَ جثثِ الأطفالِ..
في قانا ومّرْوحينْ
أكبرُ من بطاقةِ التّموينْ
أكبرُ من بطاقةِ التّموينْ
.
يا قارئي..
يا كلَّ قُرّائي الّذينَ الآنَ يقرؤونْ
يبكونَ من شِعري..
ويضحكونَ
ويؤمنونَ بالّذي أكتبُ من شعرٍ..
ويكفرونْ
إنّي أنا آمنتُ..
فاسمعونْ
إنّي أنا آمنتُ..
فاسمعونْ
ليست حياتي لعبةً في كفِّ راشيلَ..
وبنيامينْ
ليستْ فلسطينُ الّتي أردتّها..
محظيّةً يزني بها شمشونْ
ليستْ بلادي حانةً..
يرتادها المارينزُ كلَّ ليلةٍ..
وفندقاً إليهِ يهجعونْ
.
إنّي أنا آمنتُ..
فاسمعونْ
أقولها بالحبرِ..
بالدّماءِ..
بالدّموعِ..
فاسمعونْ
أحفرها بخنّجري في الصّدرِ والجّبينْ
أعلنها كثورةٍ في الوطنِ الكبيرِ..
فاسمعونْ
أصيحُ بالمحيطِ والخليجِ..
فاسمعونْ
أصيحُ بالسّهولِ والجّبالِ..
فاسمعونْ
أرفعها في أوجهِ الأعداءِ بندقيّةً..
أطلقها رصاصةً..
في رأسِ راشيلَ وبنيامينْ
أخرجُ مثلَ ماردٍ..
من قمقمِ الروتينْ
أصيحُ ...
فاسمعونْ
أعرفُ من أكونْ
أعرفُ من أكونْ
في زمنٍ يرفضُ أن أكونْ