اطلّ من حرم الرؤيا فعزاني - بدوي الجبل

منازل الخلد لا أرباع لبنان
و فتنة السحر لا آيات فنّان

جنان لبنان حسبي منك وارفة
فيها النديّان من روح و ريحان

شبّ النبيّون في أفيائها و حبت
فيها خيالات إنجيل و قرآن

بليلة بدموع الله ما و شنت
إلاّ و بين خوافيها حبيبان

يغفو بها الفجر في أحضان مورقة
مديدة الظلّ أحلام سكران

و دغدغته فللأغصان هيمنة
كأنّها بثّ غيران لغيران

و ما تنبّه حتى راعه وهج
و الشمس حلي ربى خضر و وديان

صحبت فيك شبابي و الهوى و منى
لعس الشفاه و ظلا غير ضحيان

فأسبغي نعمة النسيان تغمرني
عسى يخفّف من بلواي نسياني

أمسيت لا ريقها المعسول أسعدني
و لا الجنون : جنون الحبّ واتاني

ألحّ بي السقم حتّى لا يفارقني
و راح ينسج قبل الشيب أكفاني

عفّى على نزوات النفس جامحة
إلاّ اهتزاز خليع الحسن نشوان

و صبوة للعيون النجل هانئة
من الشباب بظلّ العاطف الحاني

يثير بي كلّ حسن فتنة و هوى
فما أمرّ بماء غير صديان

و يا ربى الحسن في لبنان هل عريت
مخضلّة الدوح من ظلّ و أغصان

و من لبناتي السكرى مصرّعة
من الونى بين أفياء و أفنان

و يا ربى الحسن هل من نفحة حملت
شذى النّهود لصادي القلب حرّان

و هل صباك نموم العطر ناقلة
بعدي أحاديث أذيال و أردان

و يا ربى الحسن في لبنان هل ثملت
بعدي الرّياحين من صهباء نيسان

و يا ربى الحسن في لبنان لا انبسطت
يمنى الهجير على أفياء لبنان

مدّي ظلالك ينعم في غلائلها
صرعى الردى من أحبّائي و أخداني

النّائمين بظلّ الأرز ينشدهم
رواية الدّهر في نعمى سليمان

أمّا البلابل فلتؤنس قبورهم
من كلّ ساجعة في الدّوح مرنان

أعيذ بالحبّ و الذكرى هوى نفر
بيض الوجوه من النّعماء غرّان

***

قد صوّر الوحي ألوان النّعيم على
مثال ما فيك من حسن و ألوان

و زاد فيها خلودا ما عنيت به
أشهى اللبانات في حكم النّهى الفاني

لا يعذّب الوصل إلاّ أن يخامره
خوف المحبّين من نأي و هجران

و لا هناء بنعمى لا تخاف لها
فقدا و لا تبتلى منها بحرمان

لو يعلمون مناحي النّفس ما خلعوا
ثوب الخلود على نعمى و أحزان

فأصبح الكون لغوا لا حياة به
من رغبة في مجاليه و غنيان

ما للخلود و ما للحسن يزعمه
هيهات عرّي من حسن و إتقان

يضفي الجمال على الأيام مقتدر
من (التحوّل) ذو غزّ و سلطان

عنا له الكون مأخوذا بفتنته
من أنجم و مكانات و أزمان

و عاطفات و أرواح و أخيلة
تغزو الوجود و آراء و أديان

و ربّما فقهت من أمره عجبا
قبل الهداة عصا موسى بن عمران

***

ليؤمن النّاس ما شاؤا بربّهم
فبالتحوّل بعد الله إيماني

تسمو إلى أفقه القدسيّ طاهرة
طهر الدّموع تسابيحي و ألحاني

كفرت بالرّوح بعد الرّيب آونة
و كان زلفى إلى نجواه كفراني

و قرّب النّاس ما شاؤا لمذبحه
فما تقبّل منهم غير قرباني

أعلنت حين أسرّوا أمرهم فرقا
يا بعد ما بين أسرار و إعلان

***

إنّ الخلود و ما تروي مزاعمهم
عن السعادة في الأخرى نقيضان

لا يخدع الله قوما يؤمنون به
فتلك خدعة إنسان لإنسان

جنان ربّك في سرّ الخلود غدت
و كلّ آو إليها رازح وان

ملّ المقيمون فيها من هناءتهم
كم يملّ السقام المدنف العاني

تمضي العصور عليهم و هي واحدة
اليوم كالأمس فيها ضاحك هاني

تزجي السآمة تفكيرا و عاطفة
إلى عقول و أهواء و وجدان

لا يرقبون جديدا في خلودهم
لرثّ من قدم العهد الجديدان

و لا يحبّون لكن تلك طائفة
من ماجنات خليعات و مجّان

و لا يناجون في أحلامهم أملا
محبّبّا بين إنكار و إيقان

و لا يحسّون لا حزنا و لا جذلا
فالقوم ما بين مشدوه و سهوان

يا شقوة النفس تخلو بعد أن عمرت
من حسرة و لبانات و أضغان

و ضيعة القلب لا تأوي إليه منى
كالنحل تأخذ من روض و بستان

من كلّ من أبلت الأدهار جدّته
فما يحرّكه تدليل رضوان

ينادم الحور لكن غير مغتبط
و يشرب الراح لكن غير ظمآن

لودّ في كلّ مل يجريه من عسل
و من خمور و من درّ و عقيان

هنيهة من شقاء يطمئنّ بها
إلى مناجاة آلام و أشجان

إذا تذكرّ دنياه هفا ولعا
إلى حبيب و صهباء و ندمان

و راح يبحث في المجهول عن أمل
و عن شقاء و عن أهل و خلاّن

لعلّ بين زوايا النفس قد تركت
ثمالة من صبابات و تحنان

***

أماّ الغواني فصخر لا يحرّكها
نجوى محبّ و لا تدليل ولهان

لا تعرف الحبّ إلاّ محض تلبية
لعابرين من الأبرار فتيان

و لا تحنّ إلى روح و عاطفة
فالحبّ في ملكوت الله جثماني

من كلّ مرتجّة الأرداف حالية
بالحسن أخّاذة بالسحر مفتان

خبا لهيب المنى في روحها فغدت
و حسنها في حلاه حسن أوثان

جنى الخلود عليها فهي شاكية
إلى الأنوثة ذاك الخائن الجاني

***

و للخلود على أهل الجحيم يد
تجزي مع الدّهر إحسانا بإحسان

الكافرون لطول العهد قد ألفوا
بقاعها نضج أرواح و أبدان

و قد تزفّ بها و الحفل محتشد
سجينة من ضحاياها لسجّان

فأصبحت و هي من ماء و من مدر
شيطانة تتصبّى كلّ شيطان

و ربّما صحبوا فيها زبانية
بعد القلى إلف إخوان لإخوان

لا يألمون و لا تشكو جسومهم
من اللظى فهي نيران بنيران

***

مليحة الدلّ من غسّان لا بليت
شمائل الصيد من أقيال غسّان

أتأذنين بإنشاد فما جليت
إلاّ لحسنك أشعاري و أوزاني

طوّفت في هذه الدنيا على مهل
طواف أشعث ماضي العزم يقظان

تظلّلني مصر أحيانا و آونة
أعاقر الخمر في جنّات بغدان

و قد صحبت شعوب الأرض من عرب
شمّ الأنوف إلى روم و كلدان

مفتّشا عن عزاء النفس لا لعبي
أدّى إليه و لا حلمي و عرفاني

مسائلا عنه حتّى قد عييت به
إرث الفلاسف من هند و يونان

فما رأيت له عينا و لا أثرا
و لا فاد طوافي غير خذلاني

إذا ندبت جهودي و هي ضائعة
أطلّ من حرم الرؤيا . فعزّاني

***

ثمّ انثنيت و ركبي جدّ متّئد
من الونى و رفيقي جدّ حيران

و البيد أوسع من صدر الحليم مدى
و للسّراب بها آلاف غدران

ظمأى حيارى و خلف الركب طائفة
حمر اللواحظ من أسد و ذؤبان

فأيقن القوم بالجلىّ و قد صمتوا
لهيبة الموت و هو المقبل الدّاني

حتّى إذا اليأس لم تترك مرارته
إلاّ بقيّة صبر غير خزيان

لاحت إذا اليأس لم تترك مرارته
إلاّ بقيّة صبر غير خزيان

لاحت خيامك بالصحراء مونقة
أبهى و أزين من عرش و إيوان

فكبّر الرّكب مرتاحا إلى أمل
عذب المجاجة حالي الوشي ريّان

مبادرا للظلال الخضر قد كسيت
نثير ورد و نمام و سوسان

فما فتحت جفوني و هي دامية
من الرّمال أعان الله أجفاني

حتّى لمحتك خلف الستر ضاحكة
إلى جوار و حجّاب و غلمان

فقرّت النفس لا شكوى و لا تعب
و لا لجاجة إيمان و كفران

و ابصرت بعد طول البحث غايتها
فاذعنت لهواها أيّ إذعان

رأت بعينيك يا ليلى و قد يئست
عزاءها لا بإنجيل و فرقان

فقبّلت شفة حمراء دامية
و اهتزّ من نشوات اللثم نهدان

سرّ السعادة في الدّنيا و إن خفيت
تجلوه منك على الأكوان عينان

آمنت بالحبّ ما شاءت عذوبته
آمنت بالحبّ فهو الهادم الباني