الذكرى - بدوي الجبل

لهيب من الذكرى و حقّك لا يخبو
متى يتلاقى بعد نأيهم الصحب

أحبّه قلبي إن بعدتم فما نأى
عن القلب لا الذكر الملحّ و لا الحبّ

على طيفكم أغمضت عيني و التقى
صيانا له في مقلتي الهدب و الهدب

جلوت القذى عنها وفاء لطيفكم
فأحلامها نعمى و مدمعها عذب

نزلتم من الذكرى بقلبي منزلا
يرفّ عليه النّور و الظلّ و الخصب

أراكم على بعد المزار فياله
حنينا تلاقى عنده البعد و القرب

و يدنيكم منه خيال مجنّح
هراقت عليه نورها الأنجم و الشهب

خيال يجوز الدّهر و الكون و المنى
و يطوي الغيوب النائيات و لا يكبو

فيا بعدها من غاية لم ترح بها
مطيّ و لا حطّ الرّحال بها ركب

و لله ما أوفى الخيال فبيننا
و بينكم منه الرّسائل و الكتب

يلمّ فيلقاكم و يشكو اليكم
من البعد ما نشكو و يصبو كما نصبو

و نظمأ لولا نهلة من رحيقه
أديرت فلا الساقي أفاق و لا الشرب

سلاف من الذكرى أديرت كؤوسها
فما شرب الندمان لكنّهم عبّوا

نعيتم فلم يخلص إلى القلب نعيكم
و لم تتقبّله البصيرة و اللّبّ

إذا مرّ وجه عابر رحت أجتلي
أساريره بشر عليهنّ أم رعب

لعلّ الذي ينعاكم كان كاذبا
فيا نعمة قد كان يحملها الكذب

يجسّ الطبيب النّبض حيران ذاهلا
و هيهات لا يغني الطبيب و لا الطبّ

و يرجو على اليأس المرير و إنّه
خداع الأماني و التعلّة و الحبّ

و للأهل أبصار روان تعلّقت
بعينيه إيجاب هنالك أم سلب

و صمت مرير دون ما فيه من أسى
بكاء الثكالى و التفجّع و الندب

فوارحمتا للنّاهلات من الصّبي
ألم يتهيّب من براءتها الخطب

غرائر من نعمى الدلال تلفّتت
فأعوزها عطف الأبوّة و الحدب

فيا للصّبي الهاني شجاني أنّه
حزين و من طبع الصبي اللهو اللّعب

فيا ربّ لا راع الطفولة رائع
و يا ربّ لا ألوى بنعمائها كرب

و يا ربّ للأطيار و الفجر و الندى
إذا شئت لا للعاصف الغصن الرطب

إذا نهلّ غرب من صغير جرى له
من الملإ الأعلى على صفوة غرب

إذا عبرات الطفل مرّت بمجدب
من النفس روّته ففارقه الجدب

دموع كعفو الله لو مرّ بردها
على الرّملة الحرّى لنضّرها العشب

و يا ربّ مر تصبح نسيما معطّرا
على كلّ محزون زعازعها النكب

و يا ربّ عندي من كنوزك حفنة
من الحبّ أذريها و لكنّها تربو

تمنّيت لو فاضت حنانا و رحمة
من الظالمين الخنزوانة و العجب

فلا يعوز الإنسان حبّ و نعمة
و لا يعوز الطّير الجداول و الحبّ

أرى الفرد لا يبقى و إن طال حكمه
و يبقى بقاء الحقّ و الزمن الشعب

و أشهد أنّ الظلم يردي فلو طغى
على السفح هضب شامخ زلزل الهضب

شكت جبروت الكثب حبّات رملها
إلى الله فانهارت مع العاصف الكثب

***

أبا أحمد هل يرفع الستر مرّة
عن الملأ الأعلى و تنكشف الحجب

و فزنا من النور المصون بلمحة
تقرّ بها عين و يندى بها قلب

و كشّف للأخرى صفاء مغيّب
حبيب إلى قلبي و لكنّه صعب

و لحت لنا في عالم الحقّ بدعة
من النّور يخبو كلّ حسن و لا تخبو

فرحنا نحيّي من نحبّ تحيةّ
تنازعها الشوق المبرّح و العتب

أتنأى فهلاّ وقفة يشتفي بها
خليل و يقضي حقّ لوعته صبّ

أتنأى و ما ودّعت أهلا و لا حمى
فأين الحنان السمح و الخلق الرّحب

***

أبا أحمد هذي المواكب أقبلت
يضيق بها شرق المنازل و الغرب

رأت بشرك المرموق في وجه أحمد
فللعين من نعمى طلاقته شرب

أبا أحمد في ذمّة الله صارم
من الحقّ لا يشكو الضراب و لا ينبو

يمان محلّى فهو في السلم زينة
و تكشف عنف الموت في حدّة الحرب

سقى الله بالذكرى على غير حاجة
و لا حاد عن أطيابها الغدق السكب

عهودا لنا كالنور أمّا نعيمها
فسمح لمن يهوى مفاتنه نهب

لبسن الصبى بردا فلا خزّ فارس
يدلّ و لا الديباج و الوشي و العصب

عهود نجيبات الأصائل و الضحى
و إن قلّ في الإنسان و الزّمن النجب

و لله ما أحلى مرابع لهونا
ينادم تربا في خمائلها ترب

ينيخ ذوو الحاجات فيها رحالهم
و تصهل في أفيائها الضمّر القبّ

أحنّ إذا فارقتني بعض ساعة
و تحمد في الحبّ اللّجاجة لا الغبّ

شببنا على محض الوفاء وصفوه
كذلك آبائي و آباؤكم شبّوا

و يجمعنا نجر قريب سمت به
لغسّان أقيال غطارفة نجب

و حب رمته في اللّهيب لصهره
صروف الليالي و القطيعة و الذنب

و كأس تساقينا ثلاثين حجّة
عذوبتها طبع و تقطيبها كسب

أشمّ عبيرا من ترابك عاطرا
أمنك استعار العطر و النضرة الترب

فحيّت ثراك المزن كفّك لا الحيا
و جادته بالسّقيا يمينك لا السحب