الفوضى الجميلة - بيان الصفدي

(1)
للغيم الذي يخلع نعليه على الأفق
للنجمة التي تضحك
وتزيِّن جدائلها بالماء
لحبة الرمل التي تصغي
وتحمل على ظهرها هبّة الهواء
وتزرع كفها على الحوائط
الحوائط المبللة بالذكريات والنسيان
للمرأة التي تبكي في الزاوية
وتسأل النافذة عن الدموع
وأغنية السرير التي صبغها الدم
لخشبة الباب التي تذهب على الغابة
وتلمس قبضة الحطاب
لقبضة الأفق وهي تمسك البيت
وتدلـِّيه على الشاطىء
حتى يفرد كفيه للموج
حتى ينام على الرمل
حتى يلقي بالحوائط
ويعود عارياً إلى الجبل
للعشب الذي يضحك من كركرة الماء
ولمس الأقدام
للفتاة التي تلبس رداء الضوء
الضوء الذي ينسدل على فتنة اللحم
ويَغمى على القدمين
يكتب الطفل أوراقه
ويرميها في النبع
ويحمل مزمار الريح
ويتشابك مع الأغصان
(2)
للأغنية التي لها طعم القرنفل
للأغنية التي بدأت
ولمَّا تزل ممسكة بالسياج
لفتى الفتوة الذي يمرق من خلل الوديان
يسائل الصخر
ويرسم شارته على الدروب باحثاً عنها
لفتى الفتوة الذي هو دائماً:
تخونه الفطنة
وتضيع من قدميه الدروب التي ما بدأها
لفتى الفتوة الذي هو دائماً:
سؤاله أكبر من الفم
بلاده ليست البلاد
رغبته النار في القمم التي لا نراها
يشير الطفل
وعيناه مبتلـّتان بالدمعة التي
لن تسقط أبداً!
(3)
هيئي لي السرير
أشعلي النار لي
مضى وقت أحببته
وأبصرت من بعيد
يوم كنت أهزّ الأرض
قابضاً عليها كأنها الغربال
علني أرى بيتي الذي لا أسكنه
الذي لا أنام فيه
الذي يفرّ من يدي
الذي يهرب بابه مني
الذي قالوا لن تراه
(4)
"جئت" قال النهر
وعلامات الدرب تسحب ظلي إليها
وتدفعني
وأنا الذي قالوا لي:
لن تراه
هل بعد هذا من طواف؟
فلقد نفضت المدن
والقرى
والسهول
والجبال
عن معطفي
كما أنفض نفانيف الثلج
لم يبقَ لي سوى البيت
الذي قالوا لي:
لن تراه!
(5)
هكذا إذاً علي أن أمشي
مارّاً في المعابر التي لا تعرفني
غريباً والعابرون يشيرون إلي
- من أين جاء؟
وإلى أين يذهب؟
هذا الذي تتبعه:
الغيوم الرجراجة كالقِرَب
جذور الأشجار المقتلـَعة
صخور الشواطىء المندَّاة
غلائل الندى
الأجنحة المدهونة بالدم
الدم الدافىء كالأحضان
الأحضان التي تضن بالولائد
الولائد المغمسين بالحليب
الحليب الذي يمسح فم الطفل
ويسيل على رداء الصباح
ولا يسأل إلا عني
(6)
اهدئي.. اهدئي.. ولا تهدأ
نامي.. نامي.. ولا تنام
كيف تهدأ أو تنام
وهي في انتظاري؟
والباب مفتوح
وكذلك النوافذ
والأجراس بعيدة تدق على السطوح
وقد مسحت الريح صوتي
وطيَّرته كالورقة
(7)
كل ما جمعته في ذاكرتي
كل ذكرى فوق الثانية
بمهارة الطير الذي يبني عشه
قشة.. قشة
فكيف يكون الماضي أبخرة في الفضاء؟
كيف تهرب الذكريات وتتدحرج
ولا أتبعها؟
يوم كنت أجمع الذكريات
كانت لدي رغبة الحطاب
الذي يهوي على الجذوع
جذوع الأشجار..
والنساء..
والأمل..
والرغبات..
وجذوع الحزن والذكريات!
(8)
فجأة يحدث الذي يأتي، ولا ننتظره
أو الذي ننتظره، ولا ينتظرنا
يرمي بالصور والغبار
ويجلس على الرصيف
ويتفتـَّح كالبرعم
الذي لامس الضوء أول مرة
لهذا يدحرج الطفل سنواته كالعربات
وينادي:
من الذي دخل الحديقة
ممسكاً سورَها بيديه؟
(9)
قالوا:
عليك أن تخرّب الجذور
أن تطوي الخيالات
وتحزمها بلا سفر
أن تشبح الروح على الأعمدة
أن تهذي، ولا تقول
أن تبعد الجنون.. هذا الوحش الجريح
أن تخون الفوضى الجميلة
أيها الطفل الجميل
(10)
أنت يا من تضيع في السلالات
ولا تعترف بها
لماذا لا يبصرون مزمارك المسحور؟
ولا تأتي إليك الغزلان والوعول
والنوارس والأرانب والينابيع؟
أنت يا من تضيع في السلالات
ولا تتجزّأ فيها
لماذا لا يجتمعون تحت قبتك الزرقاء؟
حيث الظلال الممدودة للمحارب
الذي لا يحمل السلاح
أنت يا من تضيع في السلالات
ولا تقترب منها
لماذا لا يجيئون إليك
وأنت تبسط الأرض
تحت أقدامهم كالسماء
(11)
هاهو آت ٍ
تلفح صدره شمس النهارات
وعلى جبينه نـُدوب الليالي
يطوي السماء بيمينه
ويرفع الكواكب على كتفيه
يحمل البشارة للنوافذ
والسجون
والأقبية
يطوي السماء بيمينه
وخلفه أنين القرون الذي لا ينتهي!
(12)
هذه أغنيتي وكلماتي
للنافذة البعيدة في الحقل البعيد
النافذة التي تعلـِّق المشانق والأحذية
النافذة التي يصبغها دم المساء
المساء المهترىء في الأصائل
المساء ذي المهاميز والسياط
هذه أغنيتي وكلماتي
للأجساد التي يغطـّيها الطين
للعيون المحفورة كالثقوب
للرجل الذي يصرعه الأمل
.. المعقوف كالمخلب
للمرأة التي تنذهل للمسرات
تجري في لحمها كالأنهار
للطفل الذي يمسك الغيم الهارب
ولا تحدّ خطوته الأرض
للشجرة التي قصفت جذعها الريح
للرغبة التي تحفر الأرض بالأظافر
(13)
يا أيتها النفس التي لا تطمئن
واهبة نفسها للغد
صاحب الشمس التي يكوّرها الطفل
ويفرش شعرها علينا
أنا الذي ناديت
ورتـّلت صلواتي:
إليَّ.. إليَّ أيها النخيل والثـَيـِّل والصنوبر
والشيح والقيصوم والخروب والقصب
إليَّ.. إليَّ
يا عروق الحبق والريحان والبرقوق والدردار
إليَّ.. إليَّ
يا رائحة الضفاف
والصخر المبتل وجذور الدوالي
هكذا أنادي أيتها النفس التي لا تطمئن
أيتها النار التي اشتعلت فوق الجبل
وقادتني إليها
حيث لا نار ولا جبل
(14)
أنا ابن الجبل
أفتح ذراعيّ للجبل
وأقول كأني أنطق أول مرة:
يأتي الذين أحبهم
الذين سألوا عني
الذين فكـّوا رموزي
رمزاً
رمزاً
فتأخذهم صحوة اللغة
وصحوة الحواس التي تنسف كل شيء
وتنصِّب الفوضى الجميلة
على عرش الأرض
.
1981