أنا كاذبٌ مهما أقُلْ - تمام التلاوي

أنا كاذبٌ مهما أقُلْ
ألصمتُ في الغرفاتِ يشهدُ وحدتي
والليلُ يشهدُ أنّ كلَّ وسائدي إبَرٌ
وأنّ أَسِرّتي حجرٌ، وأغطيتي المطرْ.
سأحاولُ الآن التّنصُّلَ من دموعي والتّغاضي عن نزيزِ الجرحِ، أرسمَ مشهداً للروحِ مبتعداً عن المعنى وعن تفسيرِ أحزاني القديمةِ,
لم يعدْ في وُسْعِ قلبي سردَ سيرتهِ على المطرِ الخفيفِ،
سأُرجِعُ الآن الزهورَ إلى الحدائقِ، والكلامَ إلى الهواتفِ، والرسائلَ للحمامْ
ندماً على ما فاتَ من وردٍ
وخشيةَ أن أخونَ الأبجديةَ
مرّتينْ..
ماذا سأكتبُ عنكِ بعدُ؟
وكيف أُقنِعُ هذه الدنيا بأنّي ما حَبَبْتُكِ فيكِ لكنّي حَبَبْتُكِ في القصيدةِ؟
يعلمُ الشعراءُ أنّي لا أراكِ سوى لِماماً خلفَ أبوابِ الأغاني، أو مصادفةً على طُرقِ السنينِ
وليس ما بيني وبينكِ غيرُ جسرِ الأبجديةِ.
بيدَ أنّي
كلما لَمَّحتُ لاسمكِ بين فاصلتينِ
يصبحُ للبلاغةِ ملمسُ الأنثى
وللكلماتِ دفءُ لهاثها بين الوسائدِ..
كاذبٌ مهما أقُلْ
أنا ما مَسَسْتُكِ قطُّ إلا في زُجاجِ محابري
ما مرّ ثغري قطُّ إلا فوقَ ناياتِ الأنينِ
وما شممتكِ قطّ
لكن مذ حملتُ قصائدي
ظنّوا بأنّي بائعٌ للوردِ..
لم أعتدْ عليكِ
ولم ننمْ متعانقَينِ على رصيفِ البحر يوماً
لم نكن إلا خُرافةَ ريشةٍ غمَّستُها بالخمرِ لما ضاقَ بي
حبري، فأسكرتُ الخليقةَ بالنشيدِ.
لقد تعبتُ من الحنينِ ومن صدى الغرباءِ فيّ,
أنا العليمُ بما تخبّئهُ إناثُ العنكبوتِ
أنا الأميرُ أسيرُ أغنيتي
أنا البازي المُطِلُّ على البُزاةِ
وليس لي قلبٌ لأعشقَ
غير أنّي كلما ابتسمتْ لصبحيَ وردةٌ
دقّت على شفتيّ أجراسُ المديحِ,
وليس لي عينانِ كي أبكي
ولكن كلما لامستُ سهواً صفحةً بيضاءَ
سالتْ من أصابعيَ الجداولُ..
بالحروفِ أنا اختلقتُ غوايتي
دوّرتُ حرفَ النونِ ـ جَلَّ بهاؤُهُ ـ حتى استدارَ
النونُ نهدا
ثم قلتُ لنقطةِ النونِ استريحي حلْمةً في حِضنهِ..
يا عينُ كوني العينَ إنَّ رموشَكِ الراءاتُ,
يا أنفُ اكتملْ ألِفاً، ويا حَرفُ احترقْ.
.. ونفختُ من روحي
فقامت من رمادِ الشِّعرِ قامتُكِ التي جبَلَتْ يدايْ
من طينِ أوراقي ومن ماءِ الدّواةِ ومن رؤايْ..
وفُتِنْتُ
حتى خِلتُ طاولتي سماءً
والتفتُّ إلى ملائكةٍ من الأوراقِ بيضٍ طائفاتٍ في سَديمِ قصيدتي
ورأيتُ أقماراً من الكلماتِ تسقطُ منْ يدَيّ
وكنتِ بين يديّ عاريةً كموجِ البحرِ
قلتُ: أيا ملائكتي اسجدوا لسوادِ غُرَّتِها.
فخرّوا سجّداً
إلا جراحاتي أبَتْ واستكبَرَتْ
قالتْ: أنا بدمٍ أكونُ وهذهِ بالحبرِ كانتْ.
.. كنتِ عاريةً كموجِ الحبرِ
واختلطتْ عليّ مسالِكُ الرؤيا
فأسندتُ الكلامَ على ذراعِكِ
ثم نِمتُ..
اللّيلُ يشهدُ أنّ كلَّ وسائدي إبَرٌ
وأنّ أسرّتي حجرٌ وأغطيتي المطرْ
أصحو على ريحٍ تقلّبُ كلّ صبحٍ دفتري
وعلى كؤوسٍ نصفِ فارغةٍ
فلستُ أرى على الأوراقِ إلا خدعةَ الكلماتِ
أو كذبَ البلاغةِ.
.. هكذا تغدو الخسارةُ رايةً بيدِ الحنين,
وتصبحُ الأنثى ممالِكَ للبكاءِ، وُلاتُها الشعراءُ واللغةُ الخرابُ.
وهكذا
أصحو لأقنعَ هذهِ الدّنيا
بأنّي ما حبَبْتُكِ في القصيدةِ
بل حبَبْتُكِ فيكِ..
ماذا سوفَ أكتبُ؟
كاذبٌ مهما صدَقتُ
وعاشقٌ مهما ادّعيتُ
وشاعرٌ
حتى الأبدْ..