آخِرُ حَسَرَاتِ النّاصِرِيّ - تمام التلاوي

عيسى ابنُ مريمَ
كلّموا مَهدي، وسَمَّوني نبيَّـا
وورِثتُ عنها آفَةَ الحِرمانِ،
لم يمسسْ بها رجلٌ، فلم تمسَسْنِيَ امرأةٌ،
وعِشتُ
فلم أكنْ غِيَّاً، ولا كانتْ بَغِيَّـا.
عُمري قليلٌ
والذي منهُ انقضى أحلى من الآتي الأقلِّ،
وما انقضى إلاّ شقيّـَا.
وأبي هنالكَ،
لم يلدْ وَلَداً ولم يُولَدْ – يقولُ-
فَيَا لأُمّي كيفَ يُنكرها الحبيبُ
هي التي ضَمَّتْ بهِ حُـلُمَ النخيلِ
وقبَّـلَتْ بَشَراً سَوِيَّـا.
قالوا: المحّبةُ؟. قلتُ: تلكَ وصّيتي في الأرضِ،
فاقتسموا رغيفَ محّبتي.
. . أللهُ كيفَ يصدقونَ، أنا الذي في العمرِِِِ ما أحببتُ إمرأةً، وما مِن مرةٍ شاهدتُ أنثى واشتهيتُ ندىً بعشبِ صباحِِها، أو رَفَّ سِربُ غِوايَةٍ فيها وفِيَّـا.
كيف استطاعوا يملأوا أقداحَهمْ وجرارُ هذا القلبِ فارغةٌ، وما سارتْ بأرضٍ خَطوتي إلاّ أصابَ كرومَها عُقْمٌ.
وحتّى أصدقائي لو أحبّوني بما يكفي لكانوا ليلةً سهروا عَلَيّـَا.
ناموا..
وأما مَنْ صحا منهم وَشَى بي قَبل دِيكِ الفجرِ، واحتفَنَ الدنانيرَ التي لو كانتِ ازدادتْ قليلاً كان سَمَّرَ لي يَدَيَّـا.
نَسرُ الحنينِ الآن ينهشُ ما تبقى من مَدَى روحي: لها فخذانِِ دَجلةُ والفراتُ, وقيلَ: يلتقيانِ في شَطِّ القرنفلِ. ناهداها الطورُ والثورُ الذي أخفى ابن عبدِ منافَ, لكنْ يفضحانِ الفُلَّ. جفناها كتابٌ مُغلقٌ، كتبتْ بحبرِ المقلتينِ على بَيَاضِ العَينِ قُرآناً و
مَنْ لي وقد هبطَ الشتَاءُ ونامتِ الدُّنيا على مَهَلٍ ؟
أنا فوقَ الصليبِ الآنَ، أرفعُ دمعتي حتى الأنينِ،
فتنشجُ مَدَّ عينيَّ النوارسُ،
والوحوشُ تطوفُ مِن حولي بُكِيَّـا.
وأقولُ: يا امرأتي وداعاً
كان يلزمُني غيابُكِ كي أراكِ كما أراكِ،
وكان يلزمني حضورُك كي أودّعَكم بلا ندمٍ
وأسكنَ جنّتي مَيْتاً وَحَيَّـا..
عيسى ابنُ مريمَ
لمْ تلِدْني مثلما تلِدُ النساءُ ولا أموتُ كمَا يموتُ الناسُ,
بلْ أرقى رُقِيَّا.
والآنَ يؤلمني الشتاءُ:
كفى بُكاءً يا أبي وانظرْ إليَّـا
مِلْءَ اشتياقِكَ قادمٌ, أنا قادمٌ
كتفايَ يطلعُ فيهما ريشٌ, وتحتَ الرّيشِ يطلعُ لي جناحَا لوْعةٍ شَيَّـاً فَشَيَّـا..
هيَّا أبي, هيِّئْ لأجلي منزلاً يسَعُ العذارى والنساءَ الحورَ, وارفعْهُ علِيَّـا
هيَّا, ومائدةً وأقداحاً وورداً, شمْعَدَاناتٍ وفاكهةً وتخْتاً واسعاً,
وأضِئْ لأجلي في السمَاواتِ الثُّريَّـا
أنا قادمٌ
أنا قادمٌ
هيّـا وهيّـا..