العجاف - حسن إبراهيم الحسن

( فصول من سيرة الغائبين )
الخريف : ( فصل الحصار )
يأتي الخريفُ كأنَّهُ نايٌ على شُبَّاكِ ذاكرتي ، فأدنو من تفاصيلِ الحكايةِ :
سوفَ أذكرُ
أنَّنا كنَّا هناكَ على انتظارِ الليلِ يُنبئنا بشيءٍ غامضٍ ،
أمّي - بكاملِ حزنِها عند المغيبِ - تَهزُّ أصغرنا ،
وجدي ينهرُ الذعرَ المرابِطَ في عيوني : نَمْ صغيري ،
و اتركِ الأبوابَ مشرعةً علينا ، ربَّما عادوا غداً بقميصهِ المبتلِّ
أذكرُ أنَّهمْ شَتموا النساءَ وفتَّشوا حتّى الدفاتِرَ
... كُنتُ أعدَدتُ الوظيفةَ كي أفاجِئَ صاحبي
في حِصَّةِ التاريخِ ، ...
أعدَدتُ الوظيفةَ غيرَ أنَّي لم أُجِبْ :
- هلْ كانَ لِصَّاً والدي ...؟!
* * * *
الربيع : ( فصل الوداع )
يأتي الربيعُ ...
و هكذا دونَ انتظارٍ تبلغُ الفتياتُ فِتنتها ،
فلا نيسانَ يغويها ، و لا ريحُ اللواقِحِ تُنضِجُ التفاحَ
من زهرٍ تَفَتَّحَ في الثيابْ
يأتي الربيعُ ...
و هكذا دونَ انتظارٍ تكبرُ الأخواتُ كالطعناتِ فينا حينَ تدهمها الأنوثَةُ ثُمَّ تحلمُ بالغريبِ
يجيءُ ممتطياً حصاناً ، يعتلي درجَ الرياحِ كغيمةً بيضاءَ يعلو ..
ثمَّ يعلو
مثلَ عصفورٍ سينقرُ بابها المنسيَّ ، تصحو ملءَ دهشتها و تصغي للصهيلِ ؛ كأنَّ إيقاعاً يرنُّ
على رخامِ الروحِ يرعِشها فتوغِلُ في النضوجِ
لتبلغَ العرسَ / الغيابْ
لكأنَّني أمٌّ يُباغِتها الصَباحُ بلا شِجارٍ بينَهُنَّ
على الملاعِقِ أو كؤوسِ الشايِ ،...
هلْ صَحَتِ المدينةُ بانتظارِ البابِ يُشرَعُ
كي تمرَّ السبعُ تفتَتِحُ الصباحَ ؟
و هلْ صَحَتْ أمّي لتُشرِعَ دمعها للذكرياتِ ؟
تُقَبِّلُ الصورَ القديمةَ في زوايا البيتِ ،...
وحدي بعدهُنَّ أرَتِّبُ الغرفَ الحزينَةَ و الوسائِدَ ،
لن تفاجِئني التواقيعُ القديمةُ ، لا...
و لا بُقَعُ الطعامِ على الدفاتِرِ
هل صَحوتُ ؟
لكي تساومني الصغيرةُ حولَ ( ليراتٍ )
لتحملَ في الصباحِ رسائِلي
أو زَهْرَتَي فُلٍّ سلاماً لابنةِ الجيرانِ
هل صَحَتِ المدينةُ بعدهُنَّ ؟
و هل صحونا ؟ كي نروِّضَ عمرنا الباقي
على قَدَرِ الفجيعةِ حينَ نَحلمُ بازدِحامِ الغائبينَ يباغتونَ شرودنا ...
البيتُ بعدَ الأهلِ أوسعُ ،
غيرَ أنَّ البيتَ أضيقُ
لا أرى في البيتِ بيتاً ،
لا أرى ... إلا اليبابْ
يأتي الربيعُ بلا ربيعٍ بعدهنَّ
و ها أنا أرعى ظلالَ الذكرياتِ تمرُّ في وضَحِ الخرابْ
إلى أخواتي الحاضرات الغائبات
* * * *
الشتاء : ( فصل البكاء الطويل )
ستفيقُ أمّي
كلَّما وخزتْ خُطا الغرباءِ غفوتها ،
تُغادِرُ حلمها ،
وتَعُدُّ أحذيتي لتُدْرِكَ أنَّني لمّا أَعُدْ من سهرةِ الأصحابِ بَعْدُ ...
صريرُ بابي دائماً يكفي لتنهضَ
كي تقاسمني الصباحَ بكأسِ شايٍ
ثمَّ ترشوني بقُبلتها
لعلّي أهتدي للبيتِ قبلَ نُعاسِها ...
هي دائماً تغفو على قَلَقٍ
و تخشى اِِبنةَ الجيرانِ ، تزعُمُ أنَّني ما زلتُ غَضَّاً كالورودِ ،
لعلَّها كانتْ تَغُضُّ الطرفَ عنَ شوكي الموزَّعِ في جهاتِ القلبِ إنْ حلَّ المساءُ و لمْ أعُدْ
كي لا يؤنِّبني أبي ...
أمّي تُتِمُّ شتاءها قربَ النوافذِ ،
ترقبُ الطرقَ التي ستعيدني فجراً إليها مثقلاً بالحزنِ و الأمطارِ من فرطِ التسكُّعِ تحتَ نافذةِ التي كانتْ تبادلني الرسائِلَ ثمَّ أنستها الأساوِرُ موعدي قبلَ الصباحِ بنجمةٍ ،
ستفيقُ أمّي ...
مرَّةً أخرى تُعِدُّ الشايَ و القبلاتِ
و القصَصَ التي تروى على سمعِ المقاعِدِ بينما أغفو لأكملَ جولتي تحتَ النوافِذِ خلسةً عنّي و عنها ...
وحدها بعدي تَصُبُّ الشايَ
ترشِفُ كأسها / كأسي
و تنسى زهرةَ العمرِ المراقِ على النوافذِ بانتظاري دونَ جدوى
أيَّة امرأةٍ ستحتملُ انتظاري نصفَ عمرٍ
ثمَّ تغفرُ عودتي دونَ اعتذارٍ مسرفٍ ؟
هي دائماً تدري بأنّي سوفَ أكذِبُ حينَ أرجعُ في الصباحِ لكي تصدِّقني ،
و تدرِكُ أنَّها ستُعِدُّ لي الشايَ الذي من عادتي الإغراقُ في الأحلامِ قبلَ نضوجهِ ...
... أمّي تُتِمُّ شتاءها قربَ النوافِذِ بانتظاري ،
بينما أدنو و أنأى
تحتَ نافِذةِ التي رَحَلتْ ، أُمارِسُ بَعدها قهري
و أمتَدِحُ انكساري
* * * *
فصل الانتظار : ( فصل ليلى )
أتمَمْتُ عاماً في مديحِ الحزنِ بعدكِ ، ...
في مساءاتِ انتظارِكِ كنتُ أكبرُ كلَّ يومٍ
عامَ حزنٍ أو يزيدُ
و كنتُ أفترشُ الرسائِلَ - بانتظاركِ - كي أنامَ بلا انكسارٍ ، واثقاً بالحلمِ يختَصِرُ المسافةَ بينَ طيفكِ و اشتياقي
موصَدٌ بابي ، و ريحكِ من ثقوبِ الروحِ تنفذُ كي تؤجِّجَ جمرتي
و لأنَّني رجلٌ سأبكي ...
لا أرى في الليلِ بعدكِ ما يؤجِّجُ شهوةَ الكلماتِ ، لكنَّ القصيدةَ سوفَ تأتي في غيابكِ حينَ أبكي مثلَ طفلٍ متعبٍ ضلَّ الطريقَ
أقولُ : قاصيةٌ قطوفكِ
ثمَّ أبكي
كلَّما اسَّاقطتُ فجراً من نخيلِ الذكرياتِ
و ضاءني أمسي سأبكي
مالحٌ طعمُ القصيدةِ في غيابكِ مثلَ دمعي ، مالحٌ ...
و لأنَّني رجلٌ سأبكي ...
* * * *