حوار مع الخليل - سليمان العيسى

الخليل بن أحمد
"يبدو في صدر المكان، مهيباً، أليفاً، تنتشر
حوله أكداس من الرسائل والصحف يرفع بصره
عن جريدة في يده..."
***
قَرأْتُ الجريدةْ..*
قرأتُ الكلامَ الذي تنشُرونْ
وشِعراً تُسَمُّونَ ما تكتبونْ
عمودانِ.. لا سَجْعَةَ الكاهنِ
لمحتُ.. ولا خِفّةَ الماجنِ
ولم أتبيّنْ تُخُومَ القصيدةْ
*
أُزحْزِحُ عن ناظِريّ السُجُفْ
أُطِلُّ على عَصْرِكم يا بُنَيّ
أُطِلُّ وأسألُ عن كل شيءْ
وأقرأُ.. أقرَأُ كلّ الصُحفْ
*
بُلِينا قديماً بِمَدِّ النَظَرْ
نُفَتِّشُ حتى حفيفَ الشجرْ
نُقَلّبُ كلّ رمال الفلاةْ
نَمُرُّ عليها حصاةً.. حَصَاةْ
نُسائِلٌها أبداً عن خَبَرْ
ونَرْجِعُ حيناً بلَفْحِ الهجيرْ
وحَرِّ السعيرْ..
ونَزْرٍ من الزادِ، نَزْرٍ يسيرْ
ولكننا لا نَمَلُّ السفَرْ
*
أشِعراً تقولون؟
هذي الجريدة
رُموزٌ عنيدةْ
أَغُوصُ على السرّ مُنذُ الصباحْ
فلا النورُ ذَرّ، ولا السرُّ باحْ
مُعقّدةٌ أُحْجِيَاتُ الشبابْ
أماءٌ وراءَ الدُّجى أم سرابْ؟
أرَوْضٌ تمنّعَ لا يُستَباحُ
لِذي بَصَرٍ؟ أم يَبابٌ يَبابْ؟
سأُعِمِلُ فكري
سأجتازُ عصري
أُغلغِلُ في هذه الأغنيةْ
أسافِرُ في تِلكُمُ الأُحجيةْ
لعلّي أُمزّقُ هذا الضبابْ
أُحبُّ الطُّموحَ، أُحِبُّ الشبابْ
...
الشاعر: أبا المنشدينَ.. وميزانهمْ
اذا هزّتِ الريحُ ألحانهُمْ
وضاعتْ .. وضاعوا
فأنتَ الشراعُ
وأنتَ السفينةْ
وبابُ المدينةْ
نَحومُ على كلّ دربٍ جديدةْ
ونبقى ضُيوفَ الخِباءِ العتيقْ
قوافلُ عطْشَى.. وأنتَ الطريقْ
وفي الخيمةِ الأمّ تبقى القصيدةْ
*
عفاريتُكَ الطامحونَ الشبابْ
يُريدونَ هذا الدُّجى والضبابْ
يريدونه ألفَ لونِ ولونْ
وليس يَهُمُّهُمْ ما يَرَونْ
يقولون في فَوْرةٍ من غَضَبْ
يقولون: مَلّتْ يدانا الخَشَبْ
نُسمّيهِ ورداً وعِطراً ونضرةْ
لِيَمْشِ على اليابسينَ اللهبْ
ليمشِ اللهبْ..
لعلّ ربيعاً جديداً يمورُ..
وراء القبورِ..
بأرضِ العربْ..
*
أبا المُنشدينَ العِطاشِ الصغارْ
سَئِمْنا النهارْ
سئِمنا: "تعلّمْ يا فتى فالجهلُ عار."
سئمنا سُكونَ الضحى والهجيرْ..
ومات الغدير
لألفٍ خلونَ - يقول الصغارْ -
تَيبّسَ في القَفْرِ، ماتَ الغديرْ
فدَعْهُمْ يلوبونَ خلفَ الصقيع
وخلفَ جريرٍ، وخلف الفرزدقْ
وألفِ جدارٍ أنيق مُزَوَّقْ
هَوى، وانطوى، رُبّ حلمٍ تحققْ
وعادوا بزنبقةٍ من ربيعْ
...
الخليل: "ماتزال الجريدة في يده
يلقي عليها نظرة من حين
إلى حين.."
قرأتُ الجريدةْ.
وما زِلتُ أسألُ: أين القصيدةْ؟
وما زالَ ظِلّ الجدارِ العتيقْ
على شُرُفاتِ الزمانِ السحيقْ
أرقّ وأندى
وأكرم وِرْدا
يَهُزُّ النيامَ، يُنادي العطاشَ،
يديرُ على الشاربينَ الرحيقْ
*
خذوا يا بُنَيّ شِعابَ الظلامْ
ودُقّوا خطاكم بأرضِ الغرابةْ
لعلَ سحابةْ
من الغيبِ تُمْطِرْ
فتخْضَرّ هذي الصحارَى وتُزْهِرْ
ولكنَ في الشعرِ سِراً ينامْ
يُفيقُ اذا أومأتْ إصْبَعُ
يُفيقُ اذا مَسّهُ مُبْدِعُ
وكُنا لنَبْرتِهِ يا بني.. نصلي
لبيتٍ اذا هزّنا نركعُ
...
الشاعر: بيانٌ مُوَشّى..
يقولُ الشبابْ..
بيانٌ موشّى
بأعصابنا ألفَ جيلٍ تمشّى
ودقّ البيارِقْ
على كلّ خافقْ
وعِشْنا، ومِتنا، أَسارَى النَّغَمْ
عبيدَ "إلهٍ" يُسمي: القِدَمْ
فهلا أذِنتم لريشِ التحدي
يطيرُ.. ويحطم هذا "الصنمْ"
...
الخليل: "يرمي الصحيفة من يده، يعلو صوته قليلاً ولكنه يظل
هادئاً وقوراً:"
أحبُّ الطُّموحَ، أحبُّ الشبابْ
أخشى على اللاهثينَ السرابْ
خلعتمْ من العودِ أوتارَهُ
فيا حَطَباً .. قيلَ عنه: ربابْ!
"إلهُ" التراثِ.. "إلهُ" القِدَمْ
عدوّ الهُزالِ، عدوُّ السقمْ
عدوّ الفراغِ الذي يُغِرِبُ
عدوُّ الغمامِ الذي يكذبُ
وكنا لهدرتهِ.. يا بنيْ
نُصلّي.. ونمنحُهُ كل شيْ
أُحِبُّ المُعافى
من الشعرِ والنثرِ،
أهوى المُعافى
قرأتُ الكلام الذي تنشرونْ
تملّيتُ هذا الذي تُنْشِئُونْ
هياكلُ .. ألمسها مشفقاً
هياكلُ يرزحنَ جوفاً عجافا
دعوا الليلَ يأكلُ أجفانكم
على الحرفِ أبيضَ أو أصفرا
على النبرةِ البكرِ شُدُّوا العيونَ
وجوسوا على الصعبِ قلبَ الثرى
جُذوركُمُ عندنا، والربيعُ
سيولدُ من قبرنا أخضرا
لبيتٍ سجدنا.. فهل بينكمْ
جبينٌ على نغمةِ عُفِّرا؟
...
الشاعر: أبا الشعرِ.. سُقْتُ إليكَ الظّما
حواراً، وما أنا بالشاعر
سناناً أقاتلُ موتي به
أغيرُ على القدرِ القاهر
حملتُ النشيدَ.. وفجّرتُهُ
أهازيج في الموكب الهادر
أُعِيرُ به قدماً للكسيح،
أصبُّ به الضوءَ في الناظر
أفتشُ عن أهليَ الضائعينَ
بكل الذي مرّ في الخاطر
بكل القوافي، بكل البحورِ،
بماضي "التفاعيل" والحاضر
بأحدَثِ ما يستطيعُ الأداءُ،
بأعتقِ لحنٍ من الغابرِ
...
أفتّشُ عن طفلةٍ في الظلامِ
واكتبُ عن جوعها الكافر
عن الطين في قريتي، عن شريدِ
ينازع في الملجأِ العاشر
ملايين لم نعطهم في العراء
سوى الذلّ والضجةِ العاقر
ملايين يزدردون البيانَ
على قلمي بالفم الساخر
ملايين ترشحُ أسمالٌهم
تفاعيلَ ليلٍ بلا آخر
ملايينُ.. من بؤسهم ريشتي
ومنهم صدى صوتي الثائرِ
هُمُ الشعرُ في عصبي، في دمي
هُمُ الهمُّ، هُمْ زَفْرةُ الزافرِ
لميلادِهمْ قلتُ ما قلتُهُ
وبشّرتُ بالألمِ الظافرِ
وعنهمْ حملتُ إليكَ الشَكَاةَ،
فهل أنت يا سيدي عاذري؟
سِنَانٌ.. أُقاتلُ موتي به
سِنَانٌ .. وما أنا بالشاعرِ
_____________
* تعمد الخليل أن يتحرر من شكل القصيدة القديمة في هذا الحوار لأن القديم في رأيه.. لا يمنع التطور ولا يحول دون التجديد.