تراجيديا عربية / الفصل الثالث - علاء الدين عبد المولى

أحرقتُ ذاكرتي ولبيَّتُ النّداءَ المنتهي‏
في آخر البئرِ التي أهوي هلاماً في متاهتها...‏
سلاماً للذي يرفو جراحَ الغيم، يذوي في كهوفِ الحلْم،‏
يُكسَرُ، أو يُزَنَّرُ بالرَّدى‏
أحرقتُ ذاكرتي... أنا السَّفرُ المسافرُ في الصَّدى‏
شفَقُ القصائِدِ وهو ينزفُ في المراثي،‏
منذ عائشةٍ إلى مولاتِنا الأولى...‏
وذاكرتي النِّداءُ بلا مدى‏
أحرقتُ ذاكرتي التي أحرقتُ أرضاً في صياغتها،‏
فهل سأبيعُ أسمائي وأشيائي الفقيرةَ في مزاد من‏
ضياعْ؟‏
وأبيعُ معجزة الخروجِ من الرَّمادْ؟‏
أحرقتُ ذاكرتي فلم تُحرَقْ،‏
فكيف يفرّغُ النّسيانُ أدمغةَ التَّفاوضِ حول عورةِ‏
أمّةٍ شمطاءَ؟‏
كيف يسيّجُ النّسيانُ بستانَ الغناءْ؟‏
لا الرَّمز يُسْعفُني ولا لَهَبُ الغموضِ يضيءُ أجنحةَ القصيدةِ،‏
واضحٌ لُغْزي وزحفُ اليأس واضحْ‏
وأنا أصارحُ جثَّتي:‏
هذا سقوطِك من سقوط الأمَّةِ‏
وقبيلةٌ الشّعراء تزني بالفضائحْ‏
يتسابقون إلى جلالةِ خازن الألواحِ، تشتعلُ الذبائحْ‏
ويسيلُ شعبُ دمٍ تلوَّثَ، من شفاهِ الرّيح والحُبِّ المطأطىءْ‏
أبطىءْ إذاً يا موكبَ الأحزان أبطىءْ‏
ودعِ العشائرَ تلتقطْ أحجارَها إمَّا تودِّعْ نخلةً أولى وتُنبىءْ‏
عن مصرع الياقوت في شطآن بحرٍ لا يموتْ‏
كم مرةٍ غنّوا على ناي الرّماح جيوشهمْ؟‏
نشروا على سطحِ الاله نقوشهُمْ‏
واستأنسوا بتلاوةٍ من معجم الحاخامِ،‏
واتَّخذوا شراعاً في مياه الأندلسْ...‏
وأنا هنا أشعلتُ في أبهاءِ ذاكرتي بيادرَ مَجدِها الأولى،‏
فهل كُتبَ الرّجوعُ إلى قبابٍ لا يطيرُ حمامُنا‏
النَّبويُّ فيها؟‏
ونصوغُ مأتَمَنا بأيدينا؟‏
و(عبدُ الَّله) هل ما زالَ طفلاً؟‏
آه (عبد اللَّه) هل تنمو بصيرتُكَ القديمةْ‏
لترى الأكفَّ تعيدُ إفساد الوليمهْ؟‏
زمنٌ تناسخَ، أيّ فاجعةٍ ننامُ على وسادتها ونصحو؟‏
تلك(أندلسٌ) دخولُ المخرزِ النَّاريِّ في عين الرّمادْ‏
يا آل (عبدِ اللَّه) ذاكرتي تئنّ كقطةٍ‏
هُرسَتْ بأقدام الجيادْ...‏
يتوحَّدُ الفاشيّ خلف دمي،‏
دمي وفدُ التّرابِ إلى السَّحابِ،‏
دمي شتاتُ الذّكريات المستهامُ،‏
دمي ينامُ ينامُ... كلّ القادمينْ،‏
من أجل فاشيٍّ وحيدٍ، يقذفونَ عليه صبار الشَّتائمِ،‏
بينما سيقانُهُمْ من تحت طاولة المساء‏
تصافَحَتْ وتضاجَعَتْ فتراجَعَتْ مرثيّتي‏
تُلْقي بما فيها على جسرِ الأنينْ‏
يتوحَّدْ الفاشيُّ والعربيُّ خلف دمي،‏
وإنيّ واحدٌ في أمّةٍ من (واحِدِينْ)...‏
... ... ...‏
أحرقتُ ذاكرتي وقلتُ هي القصيدةُ آيتي‏
قدسيّةُ الشَّجنِ، ارتطامُ الأرض بالأشلاء فيها،‏
ثورةُ الأغصان في وجه الشّجرْ،‏
فيها/ وفيها كل ما يُدمي وما يَرْمي على نوم البشرْ،‏
حجراً لينهضَ جَمْعُهُمْ من قبل أن يمضي القطار مع السّحَرْ.‏
... ... ...‏
سيسافرونْ/‏
وأنا هنا فَرِحٌ بما أُوتيتُ من موتى صباحَ القلبِ،‏
مبتهجٌ بخنجر أغنياتٍ يكْسِرُ الإيقاعَ في مرآة روحي‏
غطيتُ ما يعرى بعورةِ خطوتي‏
وغشيت دارَ الفتكِ أنهشُ سورها‏
بأظافِرِ الطَّاغوتِ، نصَّبني غلامي سيداً فقتلتُهُ‏
نصّبتُه شعباً فأرداني، وإنيِّ‏
فرحٌ بما عَجَنَ الصّبيُّ من الرّعودِ‏
مستأنسٌ بجفاف حلقي عندما نزل الغمامُ على ورودي‏
ما زال في الذكرى من الأعشاب ما يكفي لتكفين الشَّهيدِ‏
ما زال داخلَ زهرتي عسلٌ ولكن للعدوِّ‏
إذِ امتطى عنُقي وقبَّلني وسمَّاني شقيقاً...‏
لم أكن وحدي الشَّقيقَ، هي الجموعُ تدفّقتْ‏
ورمَتْ‏
بإيقاع الذّئاب على نشيدي...‏
... ... ...‏
فرحٌ بحَتْفِ الحلمِ تصطادُ البنادقُ برجَهُ‏
ما سرُّ هذا الحلمِ تنشئهُ يدٌ مشلولةٌ‏
وتزفّهُ الأفعى لنومٍ هادرٍ كالمجزرهْ؟‏
لم أستطع تحديدَ شكلِ الموتِ،‏
كانت لعبةٌ:‏
الآن من يرمي بنَرْدِ نبوءةٍ حمّلتُها تَمْرَ الخيانةِ‏
والشّذوذَ بقامةِ الفقراءِ؟‏
من يُدْلي بحكمتِهِ ويأخذني على فرس الكلام ملوّحاً‏
للقادمين من الخلايا قبل أن يستفحل الدّودُ‏
المصهيَنُ في دماغ أجنَّتي؟‏
خُدشَتْ رؤاي، لأيّ ليلٍ سوف أمضي باللّغاتْ؟‏
هل أجدبتْ؟‏
أم أنّه عضوُ الخنوع يفضّ عورات الأغاني؟‏
أنا لست مؤتَمَناً على أنثى العناصرِ عندما‏
يعلو على أطلالنا شَبَحُ الزَّمانِ‏
ولكلِّ طهرٍ إثمهُ‏
ولكلِّ إثمٍ طهرُهُ‏
ولكلّ ميتٍ لا يغنيّ عذرُهُ‏
ولكلّ نجمٍ لا يعريّ سوأةَ المأساةِ عذرٌ.‏
للَّذي نسي الهوى عذرٌ‏
وللمكسور لا يجدُ الرؤى عذرٌ‏
وللجسد المعطَّر لا ينام مع الزّمنْ‏
لكن... بحقّ جنازة الأضواء فينا‏
وبحقّ قبر الفكرة المنهوبِ سرّاً‏
وبحقّ من قُطِعَتْ يداه لترفعا قمر السّلامْ‏
وبحق من في المهد طالته أفاعي الحربِ فابتدأ الكلامْ‏
وبحقّ منْ... وبحقّ منْ...‏
ما عذرُ من باع الوطنْ؟؟؟‏
... ... ...‏
فَرِحٌ بما أوتيتُ من موتى/‏
عليكَ شتيمتي يا عالم الأشباحِ،‏
هل ما زلتَ تزني بالعذارى؟‏
والروح هل ما زال يشرقُ فيكَ نارا؟‏
والسيّدُ الحاخامُ هل ما زال يَقْرَأُ عندنا سِفْرَ الحياةْ؟‏
وعليك زهرُ تحيَّتي يا شعرُ‏
قلبي تالفٌ بشعاعكَ السّحريِّ‏
لا ترحمْ ولا تندمْ فأنت محكَّمٌ‏
اسحبْ ضلوعي من مراقِدها‏
وخذ ثمرَ الفصول المنحني للرّيح‏
لم يُكملْ دمي إيقاعَهُ إلاَّ على مرآكَ‏
هل أفُقي أفاقَ على قدومِكَ مستفيضاً بالتَّلاشي‏
في ارتعاش الحبِّ؟ أمْ قلبي أطالَ عويلَهُ حتَّى‏
مللتَ تزورُه؟‏
مولاي ألْقِ على الكلام عباءةَ الميلادِ،‏
لستُ مقنَّعاً إلاَّ بما اختار الفضاءُ لهيكلي الرُّوحيِّ،‏
لستُ أبيع كأسَ دمي بأنهار الذَّهَبْ‏
لو لَفَّني عطشٌ... ولستُ أذيعُ أسرارَ القصيدةِ عندما‏
تأتي وأطردُها فتدخلُ كهفَ جمجمتي وتسكنُ دون أن‏
أدري، تلمُّ وحوشها وتصيدُ غزلانَ الزَّمان، وتنتشي‏
برحيلِ محراثٍ على جسدي... وتؤمنُ أنه حقلُ الغناءْ‏
أأذعتُ أسراري؟ عليكَ تحيَّتي يا شعرُ‏
هذا السرُّ مفضوحٌ وقلبي تالفٌ بشعاعكَ السِّحريِّ‏
أنتَ جناحيّ الأزليُّ،طيِّرْني وحلَّقْ فوق أشباح الدّماءْ‏
واقرع بأجراس الجنون أجئْكَ منذوراً لمعبدكَ المُنيرْ‏
يا لؤلؤَ القلبِ الفقيرْ...‏
... ... ...‏
فرحٌ بما أُوتيتُ من موتى، ذبولُ الياسمينْ‏
قلبي، وقلبي نارُ كلِّ الآثمينْ،‏
فيه، يتوب عن الحياةِ ولا يتوبُ عن الحنينْ‏
لعراءِ مملكةِ الصّدورِ، ورقْصِ عُرْي العاشقينْ‏
في الماءِ. قلبي... آه يا قبري وقبرَ العالمينْ.‏
... ... ...‏
أنا لستُ جمهوريّةً للطُّهرِ،‏
لا أميّ توسِّدُ طفْلَها المنبوذَ كفَّيها‏
وليستْ تلكَ عذراءً‏
وليست (نجدُ) صحراءً لجيش الأنبياءِ‏
وليس قلبي قِبلةً للنُّور‏
إنّ السّورَ متَّسعٌ ليشملَ أمَّةَ الأقداسِ،‏
لا لغةٌ لتثقُبَهُ ولا سَهْمٌ يفكُّ قيودَهُ‏
واليأس أطلَقَ في الفؤادِ جنودَهُ‏
القلب طميٌ في ضفافِ اليأس مرميٌّ يضيء نشيدَهُ‏
في هوّة المنفى... غداً قلبي يسبّح باسمِ قاتِلِهِ‏
غداً طفلي تغلّفُهُ المقاهي:‏
/ يا نصيبٌ يا نصيبٌ، عاشَ مولانا/‏
غداً أنثاي تحلمُ بالبريقِ‏
غداً سينكسرُ الذي يبقى من الأقلامِ في شفتي‏
غداً يتصاعدُ الزّلزالُ حتَّى يبلغ العصفورَ في قفصي‏
غداً يمشي ملائكةٌ كرامٌ خلف نعشي ضاحكينَ‏
غداً أرمَّمُ أو أحطَّمُ ... كلُّه كونٌ‏
غداً جسدي كلامٌ في الحديدْ‏
وأنا بما أوتيت من موتى أسيّجُ جثّةَ الزَّمن الجديدْ‏
... ... ...‏
دعْنا لِمَا ينهارُ فينا يا ابن قاتلةٍ‏
تطوفُ بكعبها فوق الزّهور المهملهْ‏
دَعْنا على سَفرٍ، على سقرٍ، غبارُ الموت يحشونا‏
ولا يصلُ الشهيد لقبره إلاّ وزوجتُهُ تبيعُ ثيابها‏
لتضيء ساقاها ظلامَ جزيرةِ الأعداءِ،‏
والأعداءُ كانوا بذْرَةً لصعودِنا،‏
صعَدَتْ، فصرنا جنّةً لثمارها‏
جَدَلٌ يكذَّبُ أو يُصَدَّقُ، غيرَ أنَّ عدوَّنا فينا وتلكَ المسألهْ‏
جئنا إلى العرس المهيَّأ، ساقنا مطرٌ إلى حجرٍ،‏
جلسنا بانتظار بكارةِ الرؤيا، ففاجأنا العريسُ‏
ينوسُ في ساقين صهيونيتينْ‏
قُلنا خُدعنا مرتينْ‏
وغداً سينهضُ أولُ التكوين يختمُ آخرَ التًّكوينِ،‏
قابيلٌ وفرعونٌ‏
وهارونٌ ومأمونٌ‏
واسحقٌ ورابينٌ..‏
ستسحقُنا الضّلالةُ كلَّما هبَّ النَّسيمُ من البحار الأجنبيَّة‏
والقصيدةُ سوف تغلبني بنثرِ ثيابها فوق السريرِ‏
ولستُ لستُ مقنَّعاً‏
هذا إذاً قلبي غداً...‏
قلبي غداً روحٌ بلا جغرافيا‏
فكرٌ يهندسُهُ إله المافيا‏
شعرٌ يُضاعفُ هوَّتي‏
إذْ كلُّ حرفٍ صار فيَّ مَهاوياَ...‏
وغداً ستطلع ربَّةُ الملهاةِ من رحمِ الشَّتاتْ‏
يستنطقُ الحكماءُ أوثانَ النجومْ‏
عن معجزاتٍ أنشأتْ مدناً من القصديرِ‏
والتكفيرِ والتخديرِ... آهٍ يا نجومْ‏
في أيِّ معركةٍ ربحنا فكرةً أو فأرةً؟‏
وبأي جنّازٍ رفعنا آيةً للزَّهرْ؟‏
في أيِّ زاوية حُشرنا بانتظار الحشرْ؟‏
والعصرِ، إنَّ الكائناتِ وكوْنَها في خُسرْ‏
إلاَّ الذين تلوّثوا بالفقرْ...‏
في أيِّ معتقل ُرزمنا مثل كيس الفجر؟‏
في أيِّ العروشِ رأى الفضاءُ نقيضَهُ؟‏
كلّ العروشِ نقيضُنا كلّ العروش‏
ويدُ الجيوش مع الجماعةِ، كلنا رقصٌ لايقاعِ الجيوشْ‏
نُهبتْ خزانةُ عمرنا وانسدّ بابُ العمرْ‏
وتقيأتْ روضاتُ أطفالِ الفؤادِ شطائرَ الزَّيتونِ‏
وانْحَطَمَ الفؤادُ بما لَدَيهِ‏
وما لديهِ: غدٌ تسرَّبَ وانمحى كجنازةٍ‏
أكلَ الخريفُ مشيِّعيها‏
لمْ يبْقَ فيها/ إلا بقايا قبرْ...‏
... ... ...‏
بيدي أشرت إلى القبورْ‏
قبرٌ لهذي الأرض، أرضٌ للقبورْ‏
هبطَ العبادُ على توابيت المساءْ‏
كان الهواءُ يشعّ أسلحةً لتلبَسَها العظامْ‏
الروحُ لا يعلو على هذا الخرابْ‏
والروح بورْ‏
قبرٌ/ قبورْ‏
هيّا نفتشْ في جماجمنا‏
عن لعبة أخرى تجمِّعنا‏
وتعيدُ للرّيح الغيومَ، هُنا‏
يستوقفُ القتلى خيولَهُمُ‏
ويعاتبون الفجرَ أطلقَهُمْ‏
من خصر بركانٍ... هنا وطنٌ‏
يمشي على عكّازة وطئتْ هشيمَ غنائنا‏
هيا نفتش عن هجاءٍ للَّذي‏
سمَّى الدّخان نوافذا لهوائنا.‏
كنّا بعيداً لا نضمّ من الغناء سوى الغناءْ‏
والشعرُ بابٌ للدّخولِ إلى الرَّحيلِ، ولا عبورْ‏
عبَرَ المغنيّ هوّةً أولى، ففاجأهُ سقوطُ الأفقِ‏
من فوق الجسورْ.‏
يا جنّة غنَّتْ وما التمّتْ، وحنَّت للقيامةِ،‏
سوف تنهشك النّسورْ‏
ويضيء جوفَكِ بَرقُ هذا اللَّيلِ، فانفتحي‏
لقافلة الجياع من الطيورْ.‏
... ... ...‏
قبرٌ لهذي الأرض، أرضٌ للقبورْ.‏
قال المغنيّ: إنَّ صوتي سلَّمٌ‏
هشَمَتْه أقدامُ المراثي وهي تصعَدُ،‏
قال: أبعدُ ما يكونُ الموتُ عن جسدي، ولكنّ الظَّلامْ‏
أرخى على الأطرافِ نعشاً من نعاس هائمٍ بين العظامْ‏
فرأيت في حلمي: تولولُ نسوةٌ في القلبِ/‏
والأطفال هيَّجَهُمْ دمٌ يهوي على رَكب الأنامْ‏
سأنامُ تحت الجمرِ، يصحو في أصابعيَ اللَّهيبُ‏
وأغيبُ في هذيان مملكةٍ يعمّرها الجنودُ،‏
أغيبُ في أممٍ تذوبُ.‏
تلك الشَّظيّةُ أيقظتْ وحشَ الفراغِ،‏
وكنت أحلفُ أن أطيرَ وراء أعراسي، ولكنّي أتوبُ...‏
يا وردةً سُرِقَتْ، ويا أرضاً ستنكرني كثيراً،‏
مشرقيٌّ من يُغطي صدرَ أنثاهُ وقد ثقبَتْهُ‏
قنبلةٌ أضاءَ بها الغروبُ، وغابةُ الأشجارِ‏
تحصدها الذئابُ، وأمةُ الأشعارِ يحضنُها المغيبُ...‏
عذبْ تراتيلي حبيبي‏
إن كنتَ من صحراء أغنيتي،‏
وعذّبْ زهرةَ العشّاق تذبلُ في القلوبِ‏
خذني إلى مصباحك السّحريِّ، بالأسرار توقدُهُ‏
وتطلقُ غامض الأشياء من كهف الغيوبِ‏
خذني ولو جسداً لنومكْ....‏
تأويل شكلِ الضوء في ظلمات حلمكْ...‏
إسراؤنا في وحشةِ الصَّبوات يَسْري،‏
والحبيبُ بملء خنجرهِ حبيبٌ،‏
لم نزل وطناً تجافيه الجذورْ‏
قبراً لهذي الأرض، أرضاً للقبورْ.‏
من جاء من سَعَفِ النخيلِ وقال هذا الوقتُ أخضَرْ؟‏
من عدَّ أسماءَ اليتامى في جلودِ الرَّاحلينَ،‏
وقال طفلُ الأرض يكبرْ؟‏
قبرٌ لهذي الأرض، قبرٌ للصعودِ، وللخروج من الجنونْ‏
قبر ستتضحُ البلادُ به وينكمشُ الفضاءُ له، وتغشاه العيونْ‏
قبرٌ ستحفُره الأظافرُ والجفونْ‏
قبر سنمنحُهُ الذَّبائحَ والفضائحَ،‏
أيّ وقتٍ كي نرمّمَ كذبةً للرُّوح؟‏
أو نَهَبَ القتيلَ هويّة أُخرى؟‏
ألمْ نَرَ قبّةَ الأرحام تذوي بالأجنَّةِ؟‏
ثم تنفصلُ الكواكبُ عن مجرَّتها؟‏
تشيّعُ من تودّعُه الرّمالُ؟... هو الجنونْ:‏
يوحي بهاويةِ الجهاتِ، هو الجنونْ‏
سيكونُ مالكنا الرَّحيمَ، هو الجنونْ‏
ويدقّ أبوابَ المدائن والقرى، ويخاف منه العاشقونْ‏
ونرى القبائلَ أطفأتْ قنديلها المنسيَّ في مطر يخونْ.‏
مطرٌ.../ ويا (سيَّابُ) كان الرَّبُّ يبكي جنَّةً هُجَرتْ،‏
وشباكُ الحبيبة زهّرتْ فيه الأفاعي، يا مطرْ‏
من كيمياءِِ النَّزفِ هطلُكَ، كيف يزرَعُ والدٌ‏
في الرّحمْ نظفَتَهُ، وماذا يُدَّخَرْ‏
في ليلةٍ حُشرتْ بها الديدانُ والغربانُ والعربانُ،‏
واحتقنت خلايا الحلم بالقيحِ المريرِ،‏
وسادنُ الأشباح خانته المعابدُ،‏
فالهياكل أقفَرَتْ، وجلالةُ الصَّنَم انكَسَرْ؟...‏
مطرٌ مطرْ‏
(( كذَب الغمامُ على ضحايانا))‏
فأين الآن نخفي زيفَ رؤيانا؟‏
هنا الجيرانُ نامت قطّةٌ في بابهم، واستيقظت غولاً،‏
هنا الفقراء: أكبرهُمْ بلا رأسٍ وأصغرهُمْ بلا عرسٍ،‏
وهذا الفصلَ لم يُقطَفْ ثَمَرْ‏
فالوقت جنّاز الزّهورْ...‏
... ... ...‏
قال المغنيّ: كنتُ ذات جنازةٍ أغلقتُ عينَ أبي،‏
وقلت سنحتفي بكَ عندما يدنو النّشورْ‏
والآن، عينُ الأرض ناتئةٌ إليَّ، أقولُ أغمضُها،‏
ولكنْ عينُها الأخرى تدورْ‏
فأشقُّ حنجرتي وأصرخُ في المدى:‏
قبرٌ لهذي الأرض، أرض للقبورْ...‏