القصيدة الذئبية - علاء الدين عبد المولى

ولتخرجي من بئر ذاكرتي...‏
خذي دَلْوَ المواسمِ، والحبالَ،‏
جدائلَ الصّبَار من حلْقي‏
خذي قيثارةً صدئتْ‏
خذي لوح الشَّرائع وامضغي أفيونَهُ‏
لا تتركي وتَرَاً يخصّ غناءكِ‏
ارتحلي كبدوٍ عن خيامِ قصائدي‏
لي قهوتي وحدي‏
ولي قَلبٌ تُدَقُّ عليه أوتادُ الغروبِ‏
ولي فراغٌ لولبيٌّ أقتفي أشكالَهُ‏
وأعضّ قلبي‏
كي تسيلي من غمامته‏
وأشفي أبهري من لسعِ نحلكِ‏
والتّويجَ الشَّاعريَّ من التَّداعي خلفكِ،‏
ابتعدي كأنَّك لم تكوني‏
أرجوحتي انقطعت،‏
وصَارَ بوسعك التَّحليقُ دوني‏
لكن... أعيدي جنّةً نُهبَتْ‏
أعيدي البرقَ نحو غريزةِ الأمطارِ‏
كيف ستُرجعينَ الوقت بعد فساد خمرتهِ‏
وكيف ستقطعين الرّيحَ أصنافاً‏
وقلعتُكِ المريضَةُ لم تعانق شمس تمّوز الخصيب‏
هاأنتِ عاقرةٌ، ولو أنجبتِ أطفالاً،‏
وفارغةٌ، ولو حُمِّلْتِ أسفاراً،‏
وضيّقَةٌ، فلا تتدخَّلي بفضاءِ هذا الأفْقِ،‏
تمثالٌ من القصبِ المجوَّفِ‏
لا يُضاءُ ولو تلوتُ عليهِ كلَّ حرائقي،‏
ويظنُّ هذا الصَّمتَ في أطرافه‏
يكفي لشكٍّ أو يقينِ‏
أحسبتِ أنْ لنْ يقدرَ المزمارُ أن يعوي‏
كذئبٍ في ضريحِ قصائدي؟‏
كم مرَّ سيفُكِ فوق أشجاري‏
وكم أذَّنتِ في جنَّاز فردوسي،‏
وشيَّعتِ القبائلَ نحو عزلتها،‏
وأطفأتِ الألوهةَ في عيوني‏
كم كنتِ خلف الثَّلج راكعةً،‏
مع الأخشابِ راقصةً،‏
وكانت كلُّ أحصنتي‏
تشجّ رؤوسها بسياج ميدانِ الجنونِ...‏
ثقُلَتْ موازينُ المغنيّ يا امرأَةْ‏
أعطيتُ لاسمِكِ فوق غايته‏
أدرتُ له الزَّوارق من حطامي‏
ورشوتُ آلهة العواصف لا تهبُّ عليه‏
قلتُ لحارس الأمواج باركْهُ‏
جعلتُ الصَّولجان له‏
ليخطرَ كالأمير على الأسامي‏
ونسيتِ اسمي فوق فخَّار تصدَّع‏
هل يطيبُ لك التّفرّد بالجمالِ؟‏
ومن ترجَّل عن كواكبه‏
يقبِّل تحت خطوتِك التُّرابا؟‏
من شقَّ نهرَ الفجر بين يديكِ‏
شاءَ لك الحضورَ‏
ولمَّ عن يدك الغيابَا؟‏
لا... لستِ نورانيّةً‏
لست الفراشةَ في براءة موتها‏
سبيلُ من نهديكِ كوزٌ من عَسَلْ‏
لكن، سيجتمعُ الذّباب عليهِ‏
والزوج-البطَلْ‏
سيشعّ في فخذيكِ ليلٌ‏
يسبَحُ الخفَّاش فيه‏
وأنتِ مقبرةُ الحواسْ‏
وتقرقعين كأنَّ جسمكِ من نحاسْ‏
كوني سدى‏
كوني سدى‏
أيقظتِ فيَّ الذِّئبَ‏
فانخدشي غدا‏
ما كنتِ إلاَّ ذئبةً جوَّالةً حول القصائدِ‏
ترضعين جحيمها‏
وترَيْن أنَّ الموت فيها لعبةً لغويّةٌ‏
والحبّ مروحةُ النَّدى‏
حتَّى دمار النَّفس باتَ مسلّياً‏
حتّى السّوادُ بدا كأنَّ حمامةً فيه،‏
وكان الشّعرُ حفَّاراً لقبري، فافرحي‏
أو قهقهي وسط الجنازَهْ‏
من حقِّكِ الآن الرّجوع إلى الحقيقةِ‏
والمغنيّ، آه ما أغبى مجازَهْ‏
الآن... عُدّي ما قطفتِ من النّجومِ،‏
تجوَّلي بين الحدائقِ‏
واقفزي فوق المقاعدِ‏
أَحْضري كلَّ الفصولِ لخدمةِ الجسد البليدْ‏
وقفي على تلاَّت ذاتكِ‏
وابدئي سَرْدَ الحكاية للعبيدْ‏
قولي لهم (كان يا ما كانَ) مقامرٌ بوجودِهِ‏
حَرَثَ البحارَ وباع للقرصان زورقَهُ‏
تأخَّر في اكتشاف البحرِ‏
لم يسمَعْ إلى أضداده‏
إلا وربَّاتُ العواصفِ أوقَعَتْ في قلبِهِ‏
هلعَ الرّعودْ‏
فانشقَّ في أعماقهِ صَدعٌ رمى فيه بقاياهُ‏
وفاضَتْ فيه خيبتُه وقد لعنَ الوجودْ‏
لعن المنارةَ والشّواطئْ‏
لعن السّؤال عن الّلآلئْ‏
لعن النَّوارس والشّراعْ‏
لعن الضَّياعْ/ لعن الضَّياعْ‏
كوني ضياعك، واسكني أقصى محارَهْ‏
يا من قطعتِ شِباكَ ربَّانٍ بقَرْشٍ مفترسْ‏
لم تبلغي سرَّ الخريف.‏
ولا لمسْتِ الكنز في عمق المغارَهْ‏
حتَّى يئستُ، وكنتُ سيّدَ من يئسْ‏
واليأسُ هدّامٌ،‏
يقشّر عنكِ أقنعة الطَّهارَهْ‏
ويرجّ برجَ الذَّات في علَيانِهِ‏
حتَّى يفَّر البحرُ من شطآنهِ‏
واليأس يولد يائساً‏
ويجيءُ ممَّا ليس منتظَراً‏
من الصَّلوات خلف إمامِكِ الوهميِّ‏
من قُبَلٍ مشوَّهةٍ على شفةِ الحجارَهْ‏
اليأسُ يغمرُ كلَّ ما تلدُ الحضارَهْ‏
واليأس يغزلُ للهواء فضيحةً‏
واليأس ينحَرُ للنَّشيد ذبيحةً‏
حتَّى تليق به الزِّيارَهْ...‏
كوني هيَولى ذاتِك العمياءِ،‏
ولتذبَحْ يداكِ بصيرتي الخضراءَ فيكِ،‏
وزِّيفي عينيك،‏
واتَّخذي إلى وثنٍ سبيلا‏
ما كنتِ أجمل من مزاميري،‏
فكيف رأيتُ فيكِ المستحيلا؟‏
ما كنتِ أوَّل كبوةٍ لحصان أحلامي،‏
ولكنْ كيف قاومتُ الصَّهيلا؟‏
هل قلتُ أنتِ بدايتي؟‏
أنا لن أقولا...‏
... ... ...‏
النَّمل يزحف من يديكِ، وأنت نائمةٌ...‏
(سليمانُ الحكيمُ) أضاعَ سحر الأبجديَّهْ‏
الرّيح خانتْهُ‏
ومَنْ في قلبه علْمُ الكتابِ‏
نفاه خارج قصرهِ‏
لم تأت (بلقيسٌ)‏
وما كشفَتْ لها ساقاً‏
وما اكتملَتْ خرافتها‏
وكان (الهدهدُ) الملعونُ‏
يمكثُ خلف أطياف الحكايةِ،‏
لم يقلْ شيئاً، ولم يجلبْ هديَّهْ‏
عرشُ الحكاية لعبةٌ‏
والصَّرح هشٌّ...‏
أيُّها الجنّيّ أوقدْ بعد نصف اللَّيل قلبي‏
واطرد الزّوّارَ عن هذا المقامْ‏
ضَعْ صرختي فوق البساطِ‏
ودُرْ بها حول القبور الخاويَهْ‏
علَّ الَّتي سميَّتها جنّيَّتي تصحو،‏
وتنقذُ ما تبقَّى من نبيذ الخابيَةْ‏
أو:‏
يفَتَحُ‏
الشَّيطانُ‏
بابَ الهاويَهْ...‏
________
25/6/2000‏