بيت الأنثى - علاء الدين عبد المولى
كم من الأزهارِ في النّافذةِ العليا لبيتٍ
لم يلامسْ بابُهُ ظلِّي؟ وما خبّأتُ في جيبيَ منه
ياسميناً سيَّجَتْه كلماتي
وبَنَتْ في سطحهِ منزلةً خضراءَ للبنت الَّتي
أتركُها كلَّ نهارٍ ويوافيني نداها
من بعيدٍ قطراتٍ قطراتِ
بيتها في سفح روحي صاعدٌ منه غمام الشَّوقِ،
في أعتابه بقيا نداءٍ تاه منّي
هل يعودُ؟
ما الّذي تقرأه البنتُ وقدْ غطّت يديها
بأناشيدي؟ أيُرضيها النّشيد؟
فلتَقُمْ، ولتسدلِ الأستارَ،
حتّى إنْ تعرَّتْ لا يراها غيرُه،
تُخرِجُ من جيب عطورٍ نهدَها
وأنا في الظّلّ مطويٌّ كأوراقِ نشيدي
أرقُبُ النّافذةَ العليا،
وأزهاراً،
وأرنو للبعيدِ...
... ... ...
مرّةً... غافلتُها ليلاً،
فأغلقنا علينا اللَّيلَ،
كان الصّمتُ كونيّاً،
وأعصابُ الهواءْ،
شجرٌ قامَتْ به الرّيحُ،
مشتْ في جذعه النّارُ،
وكان الثّمُر الغضُّ ارتعاشاً
كلّما أبصرَ أنّ الأرضَ تهذي
لا أمامٌ، لا وراءْ
وقميصُ القمرِ الفضّيّ مشلوحٌ على الغيمِ،
وسكّان السّماءْ
سجدوا للنّوم حتَّى الانطفاءْ
تركوا للشّاعر الضِّلِّيل يستضوئُ في الظُّلمةِ
بالنُّور الّذي تنشئهُ الحلمةُ،
كان العنبُ الأحمرُ والتّفّاح والموز
ولغزُ الاشتهاءْ
كلّ هذا حاضرٌ في غيبة الحسِّ
وكان البيتُ يغزوني بنظْراتٍ
كأَنْ لَمْ أحترقْ في بهوهِ ليلاً،
ولم أترك على أثوابه آثارَ أحزاني
أنا من في زواياك اكتشفتُ الكنزَ
علَّقتُ على بابكَ مصباحَ علاءْ
وعلى مهدكَ أنثايَ الَّتي
-لا والّذي أنَّثَها-
لن تنحني إلاّ على مرآتها الزّرقاءِ
تستقرئُ عينيها
وتُرخي شَعْرها يسترُ بُرْجاً
هدَّهُ عَصْفُ البكاءْ
أيّها البيتُ سلاماً كلَّما ضاقتْ بيَ الأرضُ،
سلاماً كلَّما زارتكَ بنتٌ
تحت جفنيها بلادُ الشَّام تغفو
قدماها شاطئاً حلْمٍ وماءْ
وحدها تعرفُ في خاتمةِ اللَّيل
لماذا يُنتجُ الحبُّ بكاءً بين نهديها،
لماذا يتجلّى فوقها ومضُ ملاكٍ
قربها فجرٌ من العري
وفي أقدامها نومٌ تدلَّى
جسمها ينضح فلاَّ
لم أكن مجنونها إلاّ قليلاً
لم تكن مجنونتي إلاَّ أقَلاَّ
فلماذا اشتعلَ البيت بما فيه؟
وظلَّ العنبُ الأحمرُ، والتّفَّاحُ، والموزُ،
ولغزُ الاشتهاءْ؟...
... ... ...
مرّةً... غافلتُه ظُهراً
سألتُ الشَّمسَ في قبّة يوم الجمْعةِ الغامضِ عنه
وسألتُ الطّفلَ والبائع عنهُ
أين بوَّابتهُ؟
شبّاكه
يكشفُ أو يُخفْي حريراً طرَّزته بيديها
فارتمى في زخرفات اللّون حلْمٌ بالصَّهيلْ؟
أين موسيقاه من جدرانه كانت تسيلْ؟
كل ما أبصره حقٌّ: بيوتُ الحيِّ،
والشَّاراتُ مازالَتْ،
وهذي صُوَرٌ ألْصَقَها طفلٌ على السّور الطّويلْ
كلّ شيءٍ... كلّ شيءٍ... وحدَهُ البيت الجميلْ
لفظةٌ في دفتر الرّيح...
أيمضي البيتُ عن أسوارِهِ؟
يدخل في ثقبٍ من النّاي ويغدو شبحاً
يصطادهُ الشِّعرُ بمفتاحِ الكلامْ؟
... ... ...
فجأةً /حدَّقتُ في الشّرْفات،
جاراتٌ لها هامسنَني: بيتُها مازال،
لن تبصَرهُ في الضَّوء،
فلتأتِ إذا حلَّ ظلامْ...
___________
14/أيلول/ 1995