تراجيديا عربية / الفصل الأول - علاء الدين عبد المولى
بيدي أشرتُ إلى التّرابِ:
أنا صداكَ الآدميُّ أنا وآيتكَ الفقيرهْ
فلأيّ طاغوتٍ تضيءُ دروبُكَ الخضراءُ؟
تولمُ أسْرةُ الأشياءِ مائدةَ الدّخول إلى الركوعِ المطلّقِ
آذنتُ لليأس العظيمِ: خذ النّشيدَ وصمتَهُ
وأدخل إلى الرّوح الشَّقي
أنا يا ترابَ القلب ميراثُ الخضوعِ،
أنا ممرٌّ ضيّقٌ لقوافل الأفراحِ إذ تنسابُ من
رحم الفضاءِ الضّيّقِ
ماذا تبقّى الآن؟ ينتشرون كالطَّاعون في أحداقنا
ماذا أسمّيهم؟ ثيابُ الحرب تطويهم
مزاميرُ السلاح صلاتُهم، والأرضُ رهْنُ دخانهم
والذكريات دخول أيديهم إلى أرحام كل الوالدات.
ماذا تبقّى يا حياةُ من الحياةْ؟
... ... ...
جسدي يطاردني، وأطفالي ورائي ينشدونْ:
يا والد الأسماء علِّمنا، فقد بلغَ الجنونْ،
حدّ الجنونْ...
جسدي أدحرجُهُ على جَبَلِ البكاءِ،
أعود أحمله إلى الأعلى، أدحرجه وأحمله،
فتخرجُ من خلاياه القبائلُ،
تبدأ الرحلاتُ موسمها ويمضي الراحلونْ.
رحلوا، ووحدي فوق جثّة قاسيونْ
بيدي أشيرُ إلى التّراب إلى السَّحاب: تزوَّجا،
هذي المدينةُ أفرغَتْ شريانها من شهوة الدَّمِ،
سوف تمضي جوقةُ الأمطار عنّا
حين ينسلخ الجنودُ عن الجدودِ
ويضيقُ خلف ضبابنا الشّعبيِّ تابوتُ الشَّهيدِ
... ... ...
وحدي أحَدّقُ في هلام الأرض:
تاريخٌ تَصَهْيَنَ نبعُه.
أيّ الإمارات السَّعيدة باركَتْ خبزَ اليتامى
في صباحهم المسيّج بالنُّعاسْ
من عَهْدِ (قحطان ) إلى عهد التّقنَع بالنُّحاسْ
هذا المكانُ متوّجٌ بنوافذٍ تتسربُ الأسرارُ منها
نحو هاويةٍ...
لهذا الرُّوحِ رقصتُهُ، اسنديني يا رؤى الأشباحِ
كفِّي... أين كفي؟ أين نبضُ دمي؟
... غموضٌ راسخٌ فينا، هواءُ القمح مسمومٌ،
تنفَّسْ أيّها الجسد الذي يسري مع الهذيانِ
كوّرْ ظلَّكَ الخشبيَّ، واسفَحْ شكلَكَ العربيَّ،
واقرأ في كتابِ الحرب خاتمةَ المطافْ
هل أرفع النُّذرَ الأمينةَ
والهياكلُ ملتقى لعناكبِ الطَّاغوت
تلتقط الفراشةَ والحمامةَ والخرافْ
وأنا أخافُ، أخافُ من خوفي ومن نصفي ،
ومِنْ روحي تئنّ وحوشُها المسترسلَهْ
أنا شاعرُ الميراث، منكَسر التَّواريخ انتشيتُ برغوة العبث
الذي طافَتْ بحارهُ في دماغي...
نَهْرُ هذا اليأس من قدميَّ ينبغُ.
يا أبا الإنجيلِ، متَّحدان نحن، فخُذْ خريفَ الجلجُلهْ
وارفع صليبكَ نحو مئذنتي،
فإني فوق خيمةِ هذه الأقوامِ منفردٌ فريدٌ،
بالمقابر أحتمي إذ يخذل الرّوحُ الأمينُ مباهجي،
وتضيعُ جوهرة التّراب، ويحضرُ الشّبحُ القديمْ
تهتزّ إذ يأتي رفوفُ طيورنا
تساقط الأثمارُ في نسلٍ من الآلام
آهٍ يا أبا السَّموات، وحدي
نافخٌ في جوف كفِّي نارَ معجزةٍ ليحترقَ الغناءُ
لمن أرتّبُ هذه الفوضى؟ وأنّي شاعرٌ
يبكي البكاءُ عليه أو تهوي السماءْ؟
جبلُ التَّفجُّع صاعدٌ في الرّيحِ
قاسيون الصَّديقُ يخبّىء الجنَّات عن شهدائه
وسماحة الشَّبح المقولبِ يقلبُ الآياتِ عن أسوارها
لتضيءَ تحت ردائِهِ
وتكونَ لائقةً بشمس عشيرةٍ حَشّدّتْ بنادقَها
وطاولَ صرحُها ريحَ الصَّهيلْ
وهناك أكشفُ حارساً يستنبتُ الطَّلقاتِ من أعناقنا
مهلاً على أشواقنا يا حارساً قصرَ الفصولْ
لن نحتمي بجدار قصركَ ليلةً أخرى، فلا تحزنْ،
بقايا نحنُ من خَدّرِ الشّعوبِ،
ويقظةُ الأطلالِ بعد حريقها
لن نرمي الأشواكَ عن هامِاتنا نحو السّقوف المخمليّةِ
لن نُجاهِر بالشَّقاءْ
مهلاً فنحنُ قبيلةُ الموتى، لكمْ طولُ البقاءْ...
... ... ...
أين اتّجهتُ بهذه الأغنيّة الحمقاءِ؟
عُودي يا قصيدةُ... هذه مرثيّةٌ لك،
لن يهبَّ نسيمُكِ اللّغويُّ ثانيةً، لأنيِّ
بايعتُ كلَّ الأنبياءْ
وجميعُهم يتجادلون على عيوني كيف تُفْقَأُ؟
كم رأيتْ
أنا كم رأيتْ
وكتبتُ: للأنثى وزينتِها البهيَّةِ،
للخمور البابليَّة،
للصَّلاة وراء نعش الأمة العرجاءِ،
للأشياءِ في باكورة العُمر الجميل،
لشارع الحجر القديمْ
وكتبتُ: للّغةِ الجديدةِ، سحرُها من خطوتي
ينساب يُنبوعاً خفيّاً من نسيمْ.
وكتبتُ: للكهفِ المقيمْ
في داخلي.
ورقصتُ في عرس القطافِ من السَّماء العاشرهْ
وسئمت خمرَ الأصدقاء، شتمتُ بعض الأتقياءِ،
تقيأتْ روحي كلاماً في هجاءِ العاهرَهْ
أنا كم رأيتُ، وكم كتبتُ، ولم أزلْ طفلاً بعينٍ حائرهْ
حتّى انكسرتُ إلى نهايات المدى
ورأيتُ أشلائي يقشّرها ملوكٌ يولمون الأرض فاكهةً
لمائدة السّوادْ
فأقمتُ في ذاتي، أطأطىء زهرتي وأقول:يا...
يا ضَيعةَ الشهداء في حرب الكلامِ.
فولولتْ خَلْفي نساءُ الرّوح: يا...
يا حسرةَ الأبناء ينتظرون عودة جدِّهم من (أورشليمْ)
وكتبتُ... حتّى أنَّ شيباً في جدار القلب يبزغُ
أو ضموراً في يد الأفراح،
أو قبراً تفتَّحَ في ابتهالاتي الشَّريدهْ
عارٌ يؤرّخني... وكيف تقومُ من عارٍ قصيدهْ؟
... ... ...
لا سرَّ بعد الآن... طوبى للخيانةِ، يا صغارُ ويا ثكالى
العهرُ أوضَحُ من بكاء الشمس، فلنُزِلِ الظِّلالا
ولتنكشفْ هذي السَّتائرُ، خلفها وطن من التَّوراةِ يُبْعَثُ،
أمّةٌ بجماجم الأمواتِ تعبَثُ،
خلفها قُبَلٌ مؤدلَجَةٌ ترسَّبَ ماؤها في نهرنا اليوميِّ
طوبى للوضوح أقولُ
يا لُغتي تهاديْ مثل موكب شاعر
مُزجت خلاياه بإيقاع القرَفْ...
غسل المغنيّ كفَّه من ناي لذّته وأعراسِ التَّرفْ
كل الوصايا تحت كعب السيّد الكونيِّ،
ألواحُ الخزَفْ
نُقشت عليها سيرةُ الشّهداء، باعَتْها المليكةُ في مزادٍ
تنحني فيه تويجات الشَّرفْ...
... ... ...
لا سرّ بعد الآن، فكرتُنا القديمةُ فحمةٌ
لن تستردّ الدفءَ في هذا الشتاءِ المعدنيّْ
إذ غابَ بستانَ الغمام،
وباع قصرُ البرقِ لؤلؤه لعاصفة الرّمادْ
وتوحَّد الرّوح الشَّقيُّ بذاتِهِ وتراجَعَ الرُّوحُ الشَّقيّْ.
... ... ...
بيدي أشرتُ إلى القوافل: أبطئي...
لرنينِ أجراسِ القوافِلِ أنحني حزناً،
يسيرُ حُداتُها متذمّرين من الغبارِ،
أقولُ ليس غبارُكُمْ ذهباً، هو الكيمياءُ تنفُثُ سِحْرهَا
والطاَّئراتُ تهزّ أشجارَ الصَّلاةِ، فأبطئي...
الأفقُ فارغةٌ يداهُ من النّجومْ
ومغارةُ الأسطورة الأولى غزاها العنكبوتُ
وليس من نصٍّ يضيءُ سقوطنا العَلَنيَّ،
هذا ليسَ من لغةٍ،
وهذا ليس لعنةَ جدِّنا المشبوهِ،
هذا مستطيلُ الهاويةْ
فتقدَّمي يا خيلُ، يا أبراجَ تَمْرٍ يعربيٍّ،
يا عيونَ مها الفراتِ
ويا بنات الكاظمية
يا عجائزَ مكَّةَ الأولى
سيكبَرُ مستطيلُ الهاويةْ
فتقدَّموا.
يا خالق الأحجار قرب دمار بيتكَ
يا مُعِيدَ العمر من بدء الضَّياعْ
يا هيكَل الإيقاع، يا لغةَ الصّراعْ
لا تقنطوا من رحمة الأعداءِ،
سوف يشّوهون سماءّنا النَّجميَّةَ الأبعادِ،
لكن لن يمدّوا في انهيار الحلم جسراً...
سوف ينتقلون من سرٍّ إلى علنٍ،ومن ورقٍ إلى وطن،
ولكن لن نراهم خارجَ الغُرفِ البعيدةِ عن أغانينا...
ولا... لا تقنطوا من طعنة العشّاقِ،
عرشُهُمُ المزيَّنُ بالجماجمٍ سوف يُسْقِطُ
في جموع الجوعِ تفّاحاً من الكلماتِ،
هل ننسى بأنَّا ذاتً معركة خسرْنا ربَّنا
لتفوز أنهارٌ بشطآنِ الأَبَدْ
أبدٌ... أبدْ
وأنا هنا ولدٌ يسيرُ على رماد الحبِّ، حافيةٌ أصابعهُ
وعاريةٌ رؤاهُ،
كان يأتي في غزال الحلم،
أغلقت الحدائق عطرها وتمايَلَتْ سكرى على
سُورِ الدّفاع عن الأفاعي...
يا ولّدْ
عد نحوَ أمّكَ، هذه أرض الخَزَرْ
عد نحوَ مهدكَ وارم من يدك القَمَرْ
مستنقعُ الثورات نحنُ، ونحن جسرُ الغيم محمولاً
على حَجَرَينْ كانا تائهيْنِ عن الحَجَرْ
الأرضُ والقمحُ المقدَّسُ، والتّراثُ المخمليُّ،
ومهرةُ الرَّغباتِ... هذا كلّه زبدٌ، زبدْ
عُدْ يا ولدْ
ضاعَ البلدْ
...
... ... ...
بيدي أشرتُ إلى البلادِ،
وتلكَ طائفةٌ من الهذيان تسحبُني إلى أوكارها
مدَّدتُ أعضائي على حَبْلِ الغسيلِ، رأيتُ حبلَ المشنَقهْ
خاطبتُ ربَّ اللذَّة الخرساء عن ميعاديَ البحري، حطَمَ زورقَهْ
ووضعتُ أنفي في ركام العطرِ،
كانتْ حلمةُ الأنثى تنزّ مشقَّقَهْ
ما كان لي صوتٌ ليقطفَهُ غنائي
أين أُخْفي كلَّ هذا اليأسِ؟
لولاه رقصتُ على الذَّهَبْ
وحشوتُ ظلَّ الطِّفل فاكهةً وحلوى،
أو رميتُ على مخيَّمه اللّعَبْ
لولا انهمارُ اليأس من أكتاف هذا العمرِ... لا،
لا، لستُ خاتمةً لأصقاعِ البلاد،
خذي سوايَ فلنْ أمددَ جرحيَ الأبديَّ فوق الطَّاولَةْ
لا، لستُ حنجرةً لمنْ باعَتْ أساورها أمامي
واستقالتْ من هيامي،
وأنا نبيٌّ، لا إلهٌ في نهاري
والشّوك أغلَقَ باب غاري
وحدي أضاجعُ حلمي العاري، وآكلُ من غباري...
بيدي أشيرُ إلى المكانْ:
هل مِنْ هنا مرّتْ قوافلُهم؟ وهل كذبَتْ أساطيرُ الرجوعِ
وأوقفَتْ نبض الرهانْ؟
أم جفّ نعناعُ الضَّمائر، وانتشى حقلُ الزّؤانْ.
مَنْ سوف يسندني إذا لأرجَّ أدمغةَ الزّمانْ؟...
... ... ...