الجفاف - علاء الدين عبد المولى

آذار/ 1991‏
كان على الأنهار أن تعودَ نحو أرضنا...‏
كيف رمت ضفافُها حصى النَّهارِ؟ شُرِّدَتْ‏
أسماكُها في رحلة الصقيعْ؟‏
نمشي إلى الماء، جلالةُ الزهور خلفنا‏
تعرى من الرّبيعْ‏
كان على القلبِ- وقد ضاقَ به الفضاءُ- أنْ‏
يستولد الهواءَ من وريدهِ من قبل أن يضيعْ‏
هل كنتُ أجمَعُ السّحابَ في يدي؟‏
هل كان ومضةَ السَّراب جسدي؟‏
أم زبدُ الأحلام في ذاكرتي يلون الزمنْ؟‏
هذا خروجُ الليل من أصابعي‏
شرودُه خلف الغزالات التي‏
ترعى نسيمَ الأرض والوطنْ‏
هذا بكاءُ اليتم تنتشي زهورُه هنا‏
على ضريح شيخيَ السَّاكن في أجنَّة الكَفَنْ‏
جاء إليَّ في الظّلام، قال: أين صبوةُ الأنهار يا بنيّْ؟‏
وضمّني، وكاد أن يقرأَ في عينيَّ آيةَ الرَّدى‏
وكاد أن يمسحَ جبهتي يقينُ نوره‏
لولا انكسارُ الحلم في يديّْ...‏
... ... ...‏
ترفَّقي باليابساتِ من قصائد المدى‏
يا ريحُ... شلَّ الفقرُ بستانَ النَّدى‏
روحٌ تغطي بؤسها‏
بقمحها اليابس، كفٌّ من رحيقٍ تنتهي‏
في حَجَرٍ ينزلُ فى أرضٍ تجفّ شمسُها.‏
كان على الأنهار أن تمشّطَ التُّفَّاحَ في منامنا‏
توقظُ جمرة الحياة تحت موحش الفصول في‏
أي نار تسرجُ الأسرارُ جوقَةَ الخيولْ؟‏
وأيّ رملٍ ذرَّهُ الخريفُ ذاتَ ليلةٍ على الحقولْ؟‏
فأجّلتْ أرحامُنا ميقاتَها‏
وأمّةُ الطّلولِ أرْختْ شَعرَها الأبيضَ خلفَ ظَهْرِها‏
وهبطتْ للعالَمِ السُّفليِّ أمّةُ الطّلولْ...‏
أوقَفها الحرّاسُ: ماذا تحملينَ؟‏
- سيرةً بها اكتويتُ، لفَّني خواؤُها‏
جرى عليَّ ماؤُها الحامضُ، ضاعَتْ من يدي أسماؤها‏
لم يبقَ غيرُ الشَّيب من ميراثها‏
- لأي عهدٍ تذهبينْ؟‏
- لعالمٍ ينسجُ من ضفائري شمسَ الهدى والياسمينْ...‏
... ... ...‏
هذا حلولُ الأرض في تابوتِها‏
تمدّدتْ، صلّى عليها المتعبون، والَّذين هاجروا‏
وعابدوا ظلالها ورافعوا تمثالها‏
الأرضُ: إرثُ الروحِ، ما أثقلَهُ‏
حين هوى الملاكُ بالبشرى على أشباحنا‏
وقال: طوبى للَّذي يخرج أثقال التراب‏
الأرض : كوخٌ مات فيه الحالمونْ‏
كوخُ يزفّ الرّعبَ للأحشاءِ، تُلقي فيه أصنافُ الغرابْ‏
بيوضَها، وتحتمي به الرّياحْ.‏
الأرض: إرثٌ للوجوه الخائفةْ‏
ترفَّقي بنا إذاً يا عاصفهْ‏
في ليلةٍ تهاجرُ الأسماكُ عن أنهارها‏
وتدخلُ الأشياءُ وهمَ نارها‏
وتهتدي ذاكرةٌ بجوهرِ اليأسِ الَّذي يشعّ في أسرارِها.‏
ترفّقي بقمح أغنياتنا‏
بالصَّلوات تنحني في معبدٍ‏
يخبىءُ العشّاقُ في جدرانهِ أسماءهم ويسقطونْ‏
ترفَّقي بنا، بهم، فكلُّنا مستضعَفُونْ‏
وكلنا مهاجرٌ بين العيون والعيونْ‏
نجيءُ من مغاور الظَّلام، نرثي جمعَنا‏
ينهضُ منَّا الوقتُ هاوياً إلى وادي الجنونْ‏
كأنَّنا ماضٍ من الوحشةِ، أو غَدٌ على إيقاعِهِ‏
تستيقظُ الأطلال من جثمانِها‏
لا سحر في ألوانِها‏
تعزفُ فيها الجنُّ حكمةُ العدمْ:‏
/هذي شعوبُ الذكرياتِ زُرِعتْ على مدى خريفها‏
هذي مراثي الشعر تملأ الفضاءَ المستعادْ‏
هذي جنازاتُ الرمادْ‏
يقتلُ فيها أولُ العبادِ آخرَ العبادْ/‏
... ... ...‏
تهاجرُ الأنهارُ والأسماكُ والأطلالُ والشعوبُ والقلوبُ‏
في مرثيّة جديدهْ‏
والأرضُ- إرثُ الرّوح- تُحْيي جثَّةَ القصيدهْ‏
يمشي المغني في بروق صوتِهِ‏
يحمل نعشَ الأمة الشَّهيدهْ...‏