ابتهالات إلى شتاء "أمِّ الغيث" - علاء الدين عبد المولى

... ولأمِّ الغيثِ سلالَتُها
من شرق الأرض تجيءْ
تتقَّمص أعضاءَ الشّجر النّاهضْ
وتسافر خلف شتات الأشياءِ الغامضْ
تعلو في الريح بنهدَيْها
وتلوّح للأسرار بفخذَيْها
وتمرّ كما الطَّيف القدسيّ على ذاكرة الآفاقِ
جسداً يتلو عسلاً تتدفَّقُ منهُ جموعُ العشَّاقِ
يستلقون على عتبات الطِّين مناراً
لم يُرْفَعْ إلاّ ليخرَّ سجوداً في حضرة أنثى باذخةٍ
في حْلمتها اليمنى "كافٌ"
في حلمتها اليسرى "نونٌ"
عيناها شبق مجنونٌ...
يا "أمَّ الغيث" أغيثينا
إذ فاض الإيقاعُ حنينا
...
والأفق امتدَّ شرايينا
تتنفَّس حلماً موصولاً بقبابِ الغيمْ
وعبيدُ الأرض بكلِّ متاهْ
يمشون على جسر الميعادْ
تنشّق حناجرُهُمْ
وتحكّ أظافرُهم مرآةَ اللَّهْ
"ياربَّ الغمرِ بصائرنا امتلأتْ بالدّمْ"...
...
ولأمِّ اليث سماتٌ... منها أنِّي مفتونٌ بمفاتِنها
إذ تَعقِدُ للعرس المتقدِّمِ مؤتمراً من ماءٍ في
قاعات بواطنها
وأنا أتدلى من ظلمات هلامي كالنطفة
تتلقاني أم الغيث برحم تطوي جسدي
فأحسّ بدفءِ الماءْ
في البدء أكون هلاميّاً
لا قيدُ العسكر يرْهبُني
لا صمتُ الزَّنزانَهْ
شرفاتُ الوقتِ مشرَّعَةٌ تدخلُ منها الأشياءْ
راضيةً بربيعِ الحبِّ، إذِ العاشقُ يحضنُ أحزانَهْ
ويغطيها بدعاءْ..
...
مفتونٌ بمفاتنكِ الجنسيَّهْ
يا سيّدةَ الشَّهوةِ حين يكون الخَلْقُ قطيعاً
من آلهةٍ سكرى بمعادنها
أعطيكِ مرايا أغنيتي ملأى أشباحاً حجريَّهْ
وأقول أعيدي النَّبض إلى شريان الكلماتِ
ليكون فؤادي مغسولاً في ينبوعكِ،
أو ترقصَ أطرافي بين خلاياكِ الضَّوئيَّهْ
وأمشّط شَعْرَ كآباتي
أضفُرها بالفلّ، أرشّ عليها ماء المسكِ،
وأوقد جمرَ الأسفارِ اللَّيليَّهْ
مفتونٌ بهضابكِ، أحلم أن أصعدَها
بعد صعودي جبلَ النَّارِ.
مفتونٌ برحيق النَّهدِ، وأحلُم أن أرشفَهُ،
بعد جفاف الحلق من الصّبَّار
مفتونٌ برؤاكِ السّريَّة،
آلمني وقتٌ حوَّلنا جثثاً علنيَّهْ
مفتونٌ بفضائكِ، فلأتوضّأْ من نورِه ولأهتفْ:
قلبي يا عبدَ الحريّهْ
قلبي يا عبدَ الحريّهْ...
يا أمّ الغيثِ أغيثينا، رئةُ الميلاد سوادْ
لسنا أحذيةً للجلاد، ولا قمراً بيدِ الجلاّدْ
لكنَّ الغيمَ أطالَ الغيبَةَ،
فاندلَقتْ شفةُ الأرض،
وباعَ الكاهنُ أسرارَ الكهنوتِ
ليُحْضِرَ خبزاً للأولادْ
هذا ما كان وما سيكونْ
هلكتْ في الحرب سلالتُنا
وامتصَّ العُهْر بقايانا
والظمأ الكونيُّ يشل مفاصلنا المنخورة.
هجرتنا الأمُّ، وهذي الأمَّةُ مهجورة.
والرّوح سجونْ.
هذا ماكان وماسيكونْ.
هل هذا الوقتُ تكهَّفَ واغتربَتْ
أطرافُ الجسدِ الواحد عن بعضٍ؟
أم سمِّيَ شيخُ الحكمة بالمجنونْ؟...
وسمعتُ بأن شيوخ المشرقِ طافوا
حول إلهٍ من نفطٍ معجونْ
هذا ما كان وما سيكونْ
وأنا بمفاتنكِ الجنسيَّةِ مفتونٌ، مفتونْ...
...
يا أمَّ الغيثِ وما أعلى وجهَكِ...
أيّ صباحٍ يوقظنا نخرج من بين القضبانْ
الشَّهوةُ زهرة دفلى ذاويةٌ
وأنا مجموعُ اليأس، وعندي قلبٌ فَرْدٌ،
لكنْ حين تكون النَّبضةُ عاجزةً عن حُبٍّ،
ينبض فيَّ القلبانْ:
أنا / والإنسانْ...
يا أمَّ الغيثٍ أغيثيني
فرسُ التَّاريخ سترميني
والزَّمنُ القابع في جوفي
يتحجّر بين شراييني
أنا كمْ شُرِّدتُ هنا وهنا
...
وخواء اللَّحظة يدميني
العشق يؤرّخ ذاكرتي
لكنَّ العشّاق نفوني
ونصبتُ مآذن من شبقٍ
تفضحُ أسرارَ المجنون
لم يبق معي إلا قلبٌ
تلفظني الأرضُ، ويحميني
هو قلبٌ شابَ، ولكنْ فيهِ
جنونٌ يعصفُ بجنونِ...
...
يا أمَّ الغيث وهذي الرّدُهاتُ السّرّيَّةُ لا توصلني
إلأاّ نحوكِ، فانكشفي مثل ستارةِ فجر أزرقْ
تلعو من نهديكِ غيوم الدِّفءِ،
فأصعدُ سلَّم شهواتي،
وأكوِّرُ جسدي بين يديكِ وأشهَقْ
تتَّسعُ الرِّئتان لألتقطَ هواءكِ،
حين تدورينَ عليَّ بفاكهةٍ عامرةٍ،
تتوغَّلُ أعماقي في أعماقكِ،
أبحثُ فيكِ عن السِّحْرِ المتسرِّب من عينيكِ
...
يا أمَّ الغيث أنا أرضٌ يرفعها الإيقاع إليكِ
ضميّها / ضميّني ذات شتاءْ
أولدْ، وأهجي أسماء الأشياءْ.
_________
8/2/1992