تراجيديا عربية / الفصل الثاني - علاء الدين عبد المولى
سيسافرون غداً وبعدَ غدٍ، وأبقى خلف ظلّي
كجنازةٍ يقفُ الصَّقيعُ على رؤوس مشيِّعيها.
أستقبلُ الدّيدانَ منذ الفجرِ، تنبئني الجرائدُ
أنَّ مخزونَ القصائدِ فوق أخشاب الموائد قد يجفُّ...
فقلتُ: مِنْ شمسٍ تخونُ ذرى بنيها.
فارَتْ ضلوعُ البرق في رئتيَّ،
أنثاي الصّغيرةُ لم تقلْ هَجَرَتْ طيورُ الخبز
لكنَّ الصَّغيرَ بكى، فكوّرتُ الجريدةَ قلتُ نعجنُها رغيفاً
كان فصلُ الجوعِ أطولَ من لساني
يا زماني
أين أبَّهةُ الأغاني
حين يحتشد النَّباتُ على المكانِ
وتنحنى أعناقُ جدّاتٍ على أحفادهنَّ،
وترقصُ الأحلام في نَسَقٍ من الزَّيتون...
هل قَلَبَ الإلهُ مسيرةَ الأشياءِ فينا؟
أم نحنُ مقلوبون منذُ البدءِ؟
كم كنّا نربي في خلايا النَّحل شهوتَنا
فيسرقُها الضّياعْ
هل نحن منذورون للغاباتِ في هذا المدى؟
نلتمّ في كهف الصَّلاةْ
نصطادُ مِسْكَ غزالةٍ شرَدَتْ بعيداً في الصَّدى
ونعودُ نحو بيوتنا فنرى موائدنا تباشرُ رقصةَ الفوضى
وتُخبرنا النّساءُ بأنَّ وحشاً غامضاً
دخَلَ البيوتَ وخلَّعَ الأحداقَ واستلقى على المهدِ الحرامْ
هل نحن منذورون للغاباتِ؟
ذاتَ سحابةٍ أيقظتُ كارثتي، لبسْنا بعضَنَا،
كانَتْ مدينتُنا مطوَّقةً، وحارتُنا معلَّقةً برجليها،
رأينا من نوافذنا الجنودَ يفتشون الفجرَ
قلنا: سوف تَخْرَبُ، ردّدت أمٌّ: لتخرَبْ...
قال أبْ:
هذا نذيرٌ من غَضَبْ
ودفنتُ رأسي تحت كرسيٍّ من النّيرانِ
تجلسُ فوقَهُ بعضُ الكتُبْ
ورميتُ فوق النّار روحاً من خَشَبْ
ورأيْتُ روحَ اللّه أجنحةً تشيّعُ صرختي...
... ... ...
بيدي أشرتُ إلى السَّماءْ
هذي شعوبٌ من قبائلَ، أم غيوبٌ في السَّلاسلْ؟
هذا نهارٌ ليسَ للأنثى به برجٌ لتسرقَ منهُ ليلةَ عرسها
هو وقُتنا صَرْحٌ على أطلاله ترعى الوحوشُ اللاَّبساتُ
دروعَ آلهةٍ، وتَصفرُ فيه ريحٌ غامضَةْ
وقتٌ لعائلةٍ مضَتْ يستيقطُ الغثيانُ في أرحامها
وتفحّ في شرفاتها أفعى العبثْ
وقت يحاولُ حكمةَ الرّؤيا...
كأوراق الخريفْ،
نحنُ/ انفجرْنا عند منعطفٍ، هَوَتْ قمصاننا،
وتجمّعَ الأولادُ حول نخاعِنا يتندَّرون بشكلِهِ:
هذا نخاع للمغنيّ،
آخرٌ لمرتِّل الآلامِ،
هذا للمطأطىءِ ظِلَّه ذلاًّ،
وهذا للّذي يهذي...
و... أهذي أيها الطاعونُ، يا مدلولنا اليوميَّ،
أهذي... لنْ أتابعَ لعبةَ الشّعراءِ حين يرتبون جنونهم
فليصعِد الهذيانُ
ولتنزلْ أباريقُ الغمام على موائِدنا
ستلمعُ في حواشيها قناديلُ الوفيّاتِ القديمَةِ والجديدةِ،
بعضُها مدنٌ يلوطُ بها العذابُ،
وبعضُها مستنقعٌ سمّوه مؤتمراً ستغشاهُ الطَّحالبُ،
والكواكبُ من ذرى صهيون تهبطُ في ضفافِهِ...
بعضُها... آهٍ علينا أيّها الهذيانُ،
حتَّى أنتَ نَزْفٌ فوق أوتار الوضوحْ
آهٍ علينا كم طوينا الأرضَ، نبحثُ تحتَها عَنْ قرن ثورٍ هائجٍ
لنعيدَ شطرنجَ التّوازنِ بين ثوراتٍ تفتتُ خبزَنا
وتشدّنا نحو المهاوي
وتوزّعُ الأمواتَ فينا بالتَّساوي...
... ... ...
ما عدتُ أبصرُ مغريات البلبل القُزَحيِّ في غَبَشِ الظَّلامْ
مدَّ الظّلامُ لسانَهُ في وجه أغنيتي ولوَّثني،
وغطى حلمةَ الفرح الوحيدةَ، كنتُ أرضَعُها وأهربُ
من مواعيد الفطامْ.
كسرَ الظلام زجاجَهُ من شرفةٍ عُلْيا على رأسي،
تناثرتِ الشظايا والدَّمُ الشّعريُّ بلَّلني،
وقيَّدني الهواءُ
فلا رئاتي مَشْرِقٌ للرّيحِ،
لا عيناي إطلالٌ على عُرْسٍ،
لساني سابحٌ في دفء وهمٍ من كلامْ
هذا الظلامْ
رحمُ الوجودْ
فيه اتخذنا النَّشأة الأولى، وقبَّلْنا مناجلَهُ تبعثرُ
قمحَنا الرّوحيَّ في أفق الحديدْ
هذا الظلامُ مليكُنا، يوحي إلى حُجَّابِهِ:
انتشِروا بأدغال المدينةِ،
علِّقوا صُوّري على قضبانِ شهوتكم،
وسمّوا كل ممسوخٍ جديدْ،
باسمي، اجمَعُوا ذهَباً لمولاتي،
ولا تنسوا لسانَ الأرض، شُدُّوهُ، ازرعوه في
فمِ الحربِ المباركِ كي يباشرَ بالنّشيدْ...
... ... ...
بيدي أشرتُ إلى الحروب المشرقيَّةِ
كيف تبدأُ؟ كيف تصعدُ؟كيف تنمو، ثم تُخْتَتَمُ الحروبْ
من أجل سروال الأميرة، من سيُلْبسُهُ لها؟
تسريحةِ الفخذين في عيدِ الختانِ، ومن ينقّبُ
فيهما عن بئر نفط مقفلٍ؟
من أين تبتدىءُ الحروب وكيف تُختتم الحروبْ؟
عبثٌ تصدّرُه محطَّات الإبادة والبيوتُ البيضويّةُ إذ تغلّفُ
سمَّ معدنها بأوراق الحريرْ
من يسندُ الرّؤيا وقد سقطتْ على هاماتِنا ألواحُها؟
من يجمَعُ الجنديَّ بعثَرَهُ الدّخانْ؟
من يحجُبُ الأرضَ العراءَ عن الفضاءِ الكيميائي؟
خلعَتْ نساءُ العمرِ أرديةً الشّتاءِ
نامَ الجنودُ، وكان لونُ النَّوم حلماً من دماءِ
حلموا، وكان الحلمُ أصغَرَ من إلهٍ كيميائي
بيدي أشرتُ إلى الحروبِ المشرقيّة، كنت أحرس نبضكِ
اللهبىَّ، والآن انتبهتُ إلى غبائي
عندما هربتْ قوافلُنا من الحربِ الأخيرةْ...
... ... ...
هربتْ قوافلُنا من الحرب الأخيرةْ
جنحتْ إلى السّلم القبيلةُ،
واستظَلَّتْ أمَّةُ الأطلالِ بالنَّخلِ العقيمِ،
ونام شيخُ البدو في قارورة الأحلامِ،
نام الفارس الخشبيُّ في حَجَرِ الأميرهْ
وبكت على الأرض العشيرهْ.
لم يبق حوذيٌّ، ومركبةُ الرَّحيل تعثَّرت بعظامنا
الآن من يمشي، يشيّعُ جرّةَ الطّين الشّهيد إلى الخلودِ؟
أو منْ يدلّ ضحيّةً عمياءَ أين ترابها؟
وتراثُها قبرٌ من الأسرارِ
تتلو فوقه حربُ الطّوائف سورةَ الغزوات:
طائفةٌ تطوف على كنوز مدينةٍ سحريةٍ
أُخرى ستنسجُ من جلود الخيلِ قبّعةً لكاهن ((أورشليمَ))
وتلكَ طائفةٌ ستهجرُها المعابدُ حين يحشو فقرُها
أمعاءَ قتلاها وتزحفُ باتّجاه هلامها
وترى بمعراج السَّراب خريفَ جنَّتها الفقيرهْ.
هربتْ قوافلُنا من الحرب الأخيرةْ
هذا جموحُ الفتكِ، فازرَعْ رمحكَ القَبليَّ في رأس النَّخيلْ
وتدلَّ من قدميكَ في أنبوب غاز واغتسلْ
قد أذَّنَ الفجرُ الأميركي المسلَّحْ
فاطلَعْ على الأرض الهجينةِ باسم قاتلكَ المجنَّحْ
واقرأ له/ إنّا فتحنا المعجزاتِ بعَجزْنا/
واذبحْ على مرآه زوجتَكَ الأليفةَ،
اتخذه سيّداً، أو: تُشْترى من حلمكَ العاري وتُذْبَحْ
هذا جموح الفتك، فاجمَحْ...
... ... ...
قال المغنيِّ- والقصيدةُ طينةٌ خرساءُ-
/ إنّ الأرضَ عاشقةٌ، ومن يعشَقْ سيُفْضَحْ/
قال المغنّي إنَّها الصَّحراءُ تنتجُ عالماً من معدنٍ
طالت أظافرُهُ لتخدُشَ جنّةَ الرّؤيا، وتجرَحْ،
نسيانَنا، فيسيل فوق الأرضِ،
صحراءٌ تبيعُ الرّيحَ بالميزانِ،
طوفي ... ...
طوفي بنا يا ريحْ
فاضَتْ مواجدُنا
شَفَقُ الزمان ذبيحْ
والشَّيبُ سيّدُنا
وفضاؤنا تلويحْ
لغدٍ يبدّدنا
ما زال كلّ كسيحْ
يحبو ويُنشدُنا
أغنيّةَ الرَّغباتْ
يا لحظةَ الشَّللِ
مات المفدَّى ماتْ
وقصيدةُ البطلِ
سقطتْ عن الكلماتْ
في هوّة الأزلِ
ومضتْ بلا ميقاتْ
وحديقةُ العسلِ
جثُثُ من النَّحلاتْ
ملّتْ من الملَلِ...
... ... ...
دخلتْ مراثي الرُّوح فصلَ سقوطها العربيِّ..
عهدٌ تُستْعادُ رموزُه
منذ انبثاق النُّور
حتَّى نخلةِ الدَّيجورِ
من يسمو على هذا الرُّكامِ؟
وهبتُكِ الأسماءَ يا مأساةُ
عاليةٌ هي الأسوارُ بين طيورِنا وسمائِنا
فخذي عبيرَ هوائنا
سنقول عنكِ: أتيتِ من ضلع الكلامِ
قصيدةً سجَدَتْ لها الأجداثُ،
زوَّجناكِ كلَّ نسائِنا
ومشتْ إليكِ شواردُ الأجناسِ تقرأُ لغزكِ الكونيَّ
تُنشدُه على أبنائنا
من طينةِ المأساةِ كُوِّنَّا، فسبحانَ الَّذي
مسَحَ المدى بدمائِنا...
... ... ...
قال المغنّى: في القصيدةِ أمَّةٌ
كم كنتُ أنبشُ في مقابرها لأبحثَ عن كتابٍ
لم تزلْ أوراقُه في الغيبِ يسُكِرَها الضَّياعْ
قال المغنى: في القصيدةِ، في ضفائِرها، زهورٌ للتّكاثرِ.
هل أفاخرُ في القيامةِ بالبنينِ،
وحربُنا ابتَعَدتْ وما ابتعَدَتْ؟
ستأكلُنا طواحينُ الحروبِ، يؤرِّخُ الدَّمُ وقتنا
ويقولُ صمتٌ صمتنا.
قل يا نبيَّ الهجرة الأخرى، بأيِّ كواكبِ الرّؤيا نعلّق موتنا
وبأيّ ربٍّ يحتمي الوادي المقدَّسُ؟ إنْ مشى
وحشُ المعادنِ في الحقولِ ليُسْكِتَ الينبوعَ
عن إنشاده؟
أفقٌ رمتْ أبعادُهُ لهباً على أبعادِهِ
والمعبدُ الرّوحيُّ ألقى فوقَ سورِ اليأس سادنَهُ
وأخفى خلسةً ناقوسَهُ، وبكى على عُبَّادِهِ.
... ... ...
قال المغنيّ: لو حفرتُ على جدار الكهف أسماءَ الهزائمِ
غير أنَّ الكهفَ أضيَقُ من هزائِمنا، وقالْ:
مالتْ بنا شمسُ الرَّحيل/ وما يزالْ
هذا المدى رحماً لميلاد النَّخيل/ فيا رمالْ
لا تهتكي سرَّالطّلول/ فكلّنا طللٌ،
ولا تستنكري شيبَ الخيولِ/ فكلّنا كهلٌ...
ومالْ
هذا الفضاءُ على تصدُّعِهِ وأسرفَ في الزَّوالْ...
قال المغنيِّ:
زحَفَ الخرابُ على أصابِعِهِ وإنيِّ
زاحفٌ بحناجري/
... ... ...
للشّعرِ حنجرةٌ، وللحربِ
للموت حنجرةٌ، وللحبِّ
بجنود أحلامي سأهبطُ في
أرض التَّلاشي خالقاً ربيِّ
أرضُ النّبوّة تلكَ مثقَلَةٌ
من كاهناتٍ لمْ تعدْ تُـنْبى
أرضٌ من التّيجانِ ضائعةٌ
في جوف طاغوتٍ بلا شعبِ
أرضُ الكنوز جهاتُها اختلطتْ
فجنوبُها في شرقها الغربي
أرضٌ بسحر السّحر مضّمَرَةٌ
نادى عليها الحزن أن هبّي
وهبي هواءَكِ بضعَ معجزةٍ
تحمي القبيلةَ من يدِ النَّهبِ
أرضٌ من الأشلاءِ تَرْصُدُها
عينٌ تشعُّ بجمرة الغيبِ
نذَرَتْ لماءِ الغير جنَّتها
ومضَت بلا زهرٍ، ولا عشبِ...
... ... ...
هربت قوافلُنا، قريشُ مشَتْ على جثمانِها
واستلهمت عكّازَ قاتِلها،
على الباب المذهَّب كان فَحْلُ الحلف ينتظر النَّبيّْ
قال المغنيْ: عندما قُتلَ النَّبيُّ بكت مآذنُ يثربٍ،
ورمت جبالُ الأرض عن أكتافها زهرَ الأمانةِ،
وانطوى عهدٌ سترويه الرّياحُ عن العجائزِ...
هكذا هربتْ قوافلُنا، فطوبى للهَرَبْ