إيقاع للفقر الجديد - علاء الدين عبد المولى

أيار/ 1991‏
- إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك-‏
* أبو ذر الغفاري‏
سحبٌ من الفقرِ الجديدْ‏
تنمو، وتصعد في فضاء الأمة الخاوي،‏
وتهطل في صحارى حلمنا الهاوي،‏
وتكمن في الدّماءْ‏
للزَّرع سيرتُه يرتّلها العبيدْ‏
والأرض تحفظها وميراث الخواءْ‏
هبّت علينا الرّيح عاريةً، فتحنا كلَّ نافذةٍ،‏
ولم يسلم سوى صدأ الحديدْ‏
ألحانُها وحشيّة الإيقاع، يرقص حولها‏
جنُّ التّراب مع السماءْ‏
وقتٌ تجدّده المراثي والفضاءُ نَمَتْ بهِ‏
سحبٌ من الفقر الجديدْ‏
آه على فقر الفضاءْ‏
آه على الفقر الجديدْ...‏
في اللّيل كان الرّوح يُخرِجُ للمدى أثقالَهُ‏
ويبيح أسرار المنافي‏
روح على أرض الجنون مشت طحالبُه وأسرف في الجنونْ‏
واخضرَّ فيه دم العيونْ‏
روح جَموحٌ طار فوق الخيل فاحترق الهواءْ‏
... ... ...‏
سحبٌ تلّف مآذنَ العشّاق، فاشَهْد صبوةَ الأشواقِ،‏
واكشِفْ سرَّكَ الباقي لآلهةِ الجنودْ‏
هل أنتَ من نجدٍ؟‏
سنُتْهِمُ كلّما انتسب المغنّي للنّجودْ‏
هل أنتَ للحريّة الحمراء والصَّفراء؟‏
هذي الأرض أحذيةٌ تضيء سمومُها ليلَ الحدودْ‏
أين المسافر ينحني بعد الغيابْ؟‏
هي لحظة النّيران تكبر... تستديرْ‏
طاحونةُ الأسماء، لا أسماءَ في هذا الخرابْ‏
إلاّ لظلِّ الفقر، للرّوح الفقيرْ‏
هيّا، سننسبُ للقبائل كلَّ منفيٍّ،‏
منازلنا الأليفةُ أقفزَتْ من عاشقيها‏
ليس فيها من بنيها غيرُ بائعها وشاريها‏
و(حاميها...) ويا بؤس التّرابْ‏
ينشقّ عن جثثٍ مقنَّعةٍ، عروشٌ من حريرْ‏
تسمو على أعناقنا وتقيم هاوية العذابْ‏
نحن الفتوحُ المشرقيّهْ‏
هُجِرتْ حقولُ غنائنا‏
وهوت طيور سمائنا‏
هل ننتقي لجنازة الأرواح من تأتمُّ خلفَهْ؟‏
طوفوا إذاً في الباديَهْ‏
وسلوا جموع الفتح أين يخبّىءُ السّلطانُ سيفَهْ؟‏
في ظهرنا، أم في البقايا الباقيهْ؟‏
نختار من غابات موتانا نبياً شاهداً‏
لكَ ننحت الأوثان مولانا، نسميّك الوحيدَ الواحدا‏
بكَ معبد الظّلمات مبتهج،‏
وخلفك كان شيخ العالم المهجور عبداً عابدا‏
بك تحلم الفتياتُ وقت زفافهنَّ،‏
وأنتَ للأيتام كنتَ الوالدا‏
خذ هذه الأشعارِ مطفأةً، ألستَ المُنشدَا؟‏
واحفظ- حُفظتَ- صفاءَها وصفاتها‏
زيّنْ سياج الوقت من شهواتها‏
أنا ما بلغتُ الشّيبَ يا مولاي، لكنَّ العذارى‏
خلف باب الفقر يلسعن الضّلوعْ‏
هنّ الأناشيد اليتيمة وحدهنَ لآلىءُ الأعراسِ.‏
يطلقن الفراش من الصّدور،‏
على الصّدور تزهّر الأغصانُ،‏
عطَّرَها نعاسُ الفجرِ...‏
يا مولاي، زوجتك المقدَّسَةُ اشترتْ ميراثهنَّ،‏
فغبن في ملكوتكَ العالي وأحرقن القلوعْ‏
مولاي يا مولاي امرأةٌ تجوعْ‏
أنثى تحلّ ضفيرةَ الأعياد،‏
تغسلها بماء القلبِ،‏
تحتشد النّهود وراء أرتالٍ من البؤس العجوزْ‏
مولاي يا مولاي امرأةُ الكنوزْ‏
فازت برضوان الاله، ومن يفوزْ‏
برضاه إلاّها؟‏
وفي قلبي إناث الفقر أسرارٌ يتوّجها العلَنْ‏
أنثى تعدّ رغيفها ونباتها‏
أنثى ستنسخ عن دمي مأساتها‏
فيها من الأحزان ما يبني وطنٌ‏
أنثى تشيب حديقةُ الفخذين فيها وهي مرآةُ الزّمنْ‏
لا فرق- ليل زفافها- بين البياض أوالكفنْ...‏
... ... ...‏
سحبٌ من الفقر الجديدْ‏
غشيتْ كهوف العائدين من الحروبْ‏
والحرب معجزة تعيدْ‏
نبضَ القلوب إلى القلوبْ‏
سحبٌ دَنَتْ، سترَ العيونَ غبارُها‏
ورمت على البلد البعيدْ‏
برقَ الحجارة والرعودْ‏
والماءُ ينضب في عروق العاشقينْ‏
والزهر في الأرحام يذبل يستكينْ‏
... ... ...‏
هذي نبوءتي المشعَّهْ‏
بالقلبِ أبصرُ لوعةً أُخفي تدفُّقَها بلوْعَهْ‏
وحدي مع الصّحراء أستجلي وأطوي أضلعي‏
وأرى الفضاءَ يشقّ ضلعَهْ‏
تثبُ الكواكبُ فوق أعمدة الغبارْ‏
اللّيل في جسدي وفي الأعماق مفتاحْ النَّهارْ‏
علناً أغطي هامتي بشعاع أغنية ترف طيورها‏
وأرى القوافل داخلي نُهبت وسالت في الرّمال خمورها‏
أنا وحشة الصّحراء، في رئتيَّ مئذنتان للأمم القديمَهْ‏
أمم متيَّمةٌ يتيمَهْ‏
ألواحُها نُقشت بأظفاري، وأرَّخها انهياري فوق أرضٍ من غضارْ‏
أنا نجمة الرّؤيا الّتي اختبأت وراء سحابة الجوعى‏
وعشّاق القمرْ‏
ما زلتُ أرقبُ ظلمةَ الآتين من تيه الغَجَرْ‏
غجرٌ رموا للرّيح موسيقى الجموحْ‏
واستأنسوا بالنّار حين اللّيل ينشر ما استَتْر‏
شهواتهم جسدٌ وروحْ‏
وهواؤهم سفرٌ يشرّدُه السَّفَرْ‏
أنا لعنةُ الهجراتِ، هذا البحرُ يشهد سِفرُهُ‏
وحدي مع الصحراء تنسجني خيولُ الفاتحينْ‏
بدوٌ وأعرابٌ تشظّتْ شجرةُ الأنساب فيهم فاستجاروا بالحنينْ‏
ومضوا على ذِكْرِ الضّلال أو اليقينْ‏
هم سورة ما رتّلتها المئذناتْ‏
في الفجر، ما انتعشت بحبِّ المنشدينْ‏
هم أمّة العشّاق خانتهم بطونُ العاشقاتْ‏
عقمٌ تكاثَرَ نملُه في كلّ أرضٍ فوقها‏
سحبٌ من الفقر الجديدْ‏
عقمٌ ترسب في النًّباتْ‏
في دورة الأحلامِ، في رئةِ الطفولَهْ‏
حملتْ به الصَحراء تابوتَ القبيلهْ‏
هم أمّة الموتى القتيلهْ...‏
... ... ...‏
سحبٌ من الفقر الجديدْ‏
تنمو، طوائفُ أم هي الطَّبقاتُ أم نُذُرُ العشائرْ‏
هبت من الانقاض، ينشدُ من جديدْ‏
ميلادها القبليَّ شاعرْ؟‏
ماذا يحلّ الآن في مدن الصّديدْ؟‏
الأنبياءُ تراجعوا وتلمَّس الشّهداء جدرانَ المقابرْ:‏
لكَ يا ترابُ خيامُنا السّوداء، أو راياتنا البيضاءُ،‏
والأعداءُ جاؤوا واستدلوا بالأحبَّةْ‏
لكَ يا تراب قبابُنا الصَّفراء تذوي،‏
أيّ نورٍ سوف تبعثه القبابْ؟‏
أرأيتَ أسلحةً الذّبابْ‏
تتدفّقُ؟‏
أسمعتَ آيات الكتابْ‏
إذ تشهقُ؟‏
لكَ يا تراب تحيّة المستضعفين،‏
تضاءلت فيهم شموسُ الحُبِّ وانتشَرَ الضَّبابْ‏
وأنا رأيت، وكلّ أعمى قد رأى‏
أنا ما نطقتُ عن الهوى‏
في ليلةٍ شاهدت فيها أمّتي تُهدي مآذنَها لجيشِ الرُّومِ،‏
فلتبدأ مكاشَفَةُ النّجومْ‏
ما زال يسرقُها الحبيبُ ولم يزلْ يعلو بها‏
نحو الخرابِ المستقيمْ...‏
... ... ...‏
سحبٌ من الفقرِ الجديدْ‏
نشرتْ عباءَتها على أرض الجليدْ‏
ماذا أقول لطفليَ الآتي؟‏
حبيبي أيّ تيهٍ بانتظاركَ؟‏
تلك جائحة الغياب تطلّ من خلف المدائنْ‏
والجوع يزحف من مرايا البحر، من أرض السّوادْ‏
خذ زهرة الفرح الوحيدهِ‏
انضُجْ بها، تنضُجْ عناقيدُ القصيدَهْ‏
واصمت أمام البحرِ تكويه الخرافات الجديدهْ‏
والحوتُ فيه مات من جوعٍ فلا تجرَحْ مراياه الشّهيدهْ‏
سلّمْ حبيبي بعد شيبتنا على هذا التّرابْ‏
وانقل لأزهار الثّلوج عبيرَنا‏
واسفَحْ عليها نورنا‏
نحنُ العجائز والثكالى‏
خذ يا حبيبي إرثَنا العبثيَّ وانثُرْهُ ظلالا‏
فوق الكوى المهجورةِ الأجراسِ، وافتَحْ خلفَ باب اليأسِ‏
بابْ‏
باباً ليدخل خاشعاً جثمانُنا‏
ويتمّ أغنيةَ الضّياع ضياعُنا‏
فليكتمل إيقاعُنا‏
ولينكسر إيقاعنا. ‏