الجسر والعابرون - عمر إدلبي

( 1 )
كنتَ أمسِ بقربي،
وعلّمْتَني الدَّمعَ يا موتُ
أكثرَ ممّا ظننتُ،
أنا عابرٌ،
ليسَ أكثرَ،
لكنَّ بي عادةَ السّنديانْ.
عابرٌ ليسَ أكثرَ...
جِسرٌ حياتي، وللجسرِ فتنتُهُ،
للضفافِ تفاصيلُ ساحرةٌ،
للزمانِ غوايتُهُ، والمكانْ.
عابرٌ كلُّ هذا،
ولا شيءَ أعلى
سوى رقةٍ لأصابعَ عاشقةٍ
فوقَ خَدِّ الكمانْ.
عابرونَ ولا أكثرُ.
عابرونَ، وهذا المدى عابرُ.
*
( 2 )
يمرِّرُنَا الجِسرُ صوبَ الغيابِ الأخيرِ،
نَمُرُّ سريعاً،
كما ينبغي،
لا كما نشتهي،
وننامُ عُراةً
على ساعدِ الموتِ،
نُبصرُهُ واقفاً قربَ باب الخلودِ
ويُعجزُنا عن مناداةِ أقفالهِ،
فندلِّلُ خيبتَنَا بخلودِ الأساطيرِ،
حيثُ يظلُّ لأسمائنا سحرُها،
وشموسُ طفولتنا لا تَميلُ.
لنا في الغياب مكانٌ،
إذاً
فليكنْ للأساطيرِ منطقُها،
ليس يلزمُها الشمسَ كلَّ صباحٍ،
ويمكنُ أن يَصغُرَ الكونُ ليلاً
ليسريَ أبطالُهُ في مشارقهِ
ومغاربهِ،
ويروا سدرةَ المُنتهى،
فيصدِّقُ ما لا يُصَدَّقُ
صحبٌ قليلُ.
لها شأنُها،
إذ تسيِّرُ غيماً يظلِّلُ فارسَها،
ولها ما لها من لغاتٍ
تُبَلْبِلُ ألسنةَ الناسِ،
ثمَّ لها
أن تمجِّدَ بالموت أحلى الصبايا
لِيَهْدَأَ نِيلُ.
لها شأنُها،
غير أنَّا
– وإن صَدَقَتْ –
عابرونَ
إلى موعدٍ لا يحولُ.
**
( 3 )
لم أُنهِ بعدُ قصيدَتي
يا موتُ،
فاخرُجْ من رؤى إيقاعِها،
فغيومُها الأندى على مرمى سماءْ.
أحتاجُ أكثرَ،
إنَّ سرَّكَ فاتنٌ،
وأكادُ أشهدُ
أنَّ برداً يعتلي شفتي،
وأُذهَلُ من بلاغتهِ،
فلم يخطئ طريقاً – منذ كانَ –
إلى طريدتهِ،
وأشهدُ
أنَّ صمتاً يعتري لغتي بحضرتهِ
فأُبهَتُ،
يا خَفيُّ!!
لكَ الخريفُ هناكَ،
لم أُنهِ القصيدةَ بعدُ،
والأحزانُ لم تقرأ على عمري
سوى أَلِفٍ
وبَاءْ.
للحزنِ فتنتُهُ،
كما للعمرِ،
فاصنعْ مركباً لي
ريثما أَشتقُّ من حزني ختاماً طيّباً
لقصيدتي،
سأضمُّ أحبابي،
فبعضُ الطيّبينَ هنا،
وأكثرُهم مضى،
مرّوا سريعاً،
لا كما مرَّ الطُّغاةُ على بلادي،
فالطّغاةُ لهم
كما للبحرِ منطقُهُ،
إذا موجٌ مضى
فلأنَّ موجاً قادمٌ،
والملحُ مكتوبٌ عليّ.
كم مرَّة أوجعتَ قلبي
باختطافِ غصونهِ!
فاتركْ له أَثَراً
يدلُّ على اتّزانكَ،
واختطفْ عمرَ الطُّغاةِ
كما يليقُ بسرمديّ.
خذْ ما تبقّى في سِلالِ العمرِ
حتّى قبلَ أن أُنهي القصيدةَ
وابتكرْ قهراً لهمْ،
وبراحَتَيّ.
أحتاجُ أكثرَ من غدي،
فاتركْ قليلاً
من شرابِ الوقتِ لي،
لأُعِدَّ كأساً،
ثمَّ أرفعه إلى أعلى سمائي،
حيثُ تنتظرُ الشّقائقُ
نخبَ فلٍّ أبيضٍ
لتردَّ أحلامي إليّ.
لم أُنهِ بعدُ قصيدتي،
فاصنعْ على مَهلٍ سفينةَ رحلتي،
وَدَعِ الشّراعَ ...
فإنَّ أحبابي لديّ.
***
( 4 )
تمرُّ خيولُكَ يا موتُ قربي،
ولم تنكشفْ بعدُ أوراقُ عمري
على غزواتِ الخريفِ،
فمن تترقّبُّ ؟
أَورثتَني ما يزيدُ عليَّ من الحزنِ
والشوقِ
للراحلينْ.
وأورثتَني الأرضَ طافحةً
بنباتٍ تناسلَ من ماءِ قاماتهمْ،
ليذكِّرَني بغَدي
كلَّ حينْ.
يَزُورونَ وقتي،
لأسمائِهم في مدى البالِ رائحةٌ
- لا أقلَّ -
بنفسجةٌ،
وظلالٌ تَطُوفُ بدمعي الذي
وَسِعَ الذّكرياتِ،
فماذا سأفعلُ بي
حينَ يعصفُ بالرّوحِ هذا الحنينْ.
بقايا من الذّكرياتِ،
وتكفي
لألقيَ روحيَ من سابعِ الصَّرَخاتِ
وأشهقَ:
يا موتُ
لي بينَ أحضانِهم بعضُ دفءٍ
ولم أتأخَّرْ عن الوقتِ،
كيف وصلتَ بلا موعدٍ
وترَكْتَ دمي في عراءِ الأنينْ؟
بقايا من الذّكرياتِ،
أرى العمرَ منحنيَ الظَّهرِ،
كانوا هنا منذُ بعضِ النَّدى،
يَسنُدونَ سياجَ الضّياءِ
بنورِ قناديلهمْ،
و يُغنّونَ من أملٍ:
يا أبانا الذي في السماواتِ
أَعْطِ البلادَ كفافَ الهواءِ.
كأنْ لا أَبَاً لكَ يا موتُ!
كيف تردُّ بسوطكَ وجهَ الدّعاءِ
من الطّيبينْ؟
كما سحبٍ غارقاتٍ بأفراحها،
زرعوا،
فتدّلت ثريَّاتُ أعيادِنا،
ومضوا،
لا كما يدّعي حزنُنا
لافتتاحِ احتفالِ النَّباتِ ببرعمهِ باكراً،
كان يشغلهم موعدٌ أخضرٌ
فوق وجهِ الترابِ،
أعدّوا له ما استطاعوا
من الحبِّ،
لم يَحفلوا
– مثلما يدّعي حزنُنا –
بملائكةٍ تَهبُ الصّابرينَ من الحُورِ ألفاً
ومن طيِّبِ الثّمراتِ بساتينَ
تطفو على كوثرٍ
وسواقيَ من عسلٍ
وأباريقَ من فضَّةٍ
أَبَدَ الآبدينْ.
مضوا مثلما سحبٌ
لم تَدَعْها الرّياحُ تمدُّ إلى الأرضِ
ينبوعَ أفراحها،
عبروا أمسَنَا صاغرينَ،
نسوا في حقائبِ أيَّامنا طيفَ أسمائهمْ
والكثيرَ
الكثيرَ من الذّكرياتِ
على صفحاتِ المكانِ،
فأمسُ
– وكانوا هنا –
كم تَركْنَا الهواءَ
يتمتِمُ في سِرِّهِ صابراً،
ويرتِّبُ أشياءَهُ
من شقاوةِ فوضى طفولتنا!
وهنا كان بالأمسِ بابٌ
نُفرِّقُ كفّيهِ
كي تتدلَّى الأراجيحُ
من قوسهِ الحجريِّ العنيدِ.
وفوقَ حجارِ طريقٍ نحيلٍ
هناكَ،
تهجّيتُ أُولى حروفِ خطايَ،
وصادفتُ ظلّيَ يلحقُني
مثلما مُخبرٍ
فنفرتُ إلى بيتنا خائفاً،
وتعلّمتُ أَقهَرُ "غُولَ" الظلامِ
بوَرْدِ النّشيدِ.
وأمسُ
رفعتُ إلى غيمةٍ صلواتِ القرُنفلِ،
فانهمرتْ دُرَّةٌ
لفَّهَا الياسمينُ ببردتهِ،
تلكَ أمي،
السّماءُ إذا افتَتَحتْ يومَها،
الأقحوانةُ إن حضنتْ عطرَها،
الشّمسُ حين تمرِّرُ شالَ الضّياءِ
على وجنَةِ البحرِ،
منّي السلامُ على وردةٍ
من رضا... وتعبْ.
وأمسُ
مَدَدتُ يديَّ إلى قمرٍ
في المساءِ،
أبي
كانَ في حضرةِ الليلِ
خمرةَ أنوارهِ،
حينَ لم يكُ للضّوءِ إلا صغارُ العنبْ.
مددتُ يديَّ،
كما لو تقولُ
مددتُ لهُ ظمأَ الرّوحِ،
ناوَلَني خبزَ يومِ القصيدةِ
من شجرٍ فوقَ راحتهِ،
كان يرفعُ قوسَ السماءِ
بأغصانهِ،
ثمّ أَسندَ أشجانَه الحانياتِ،
ونامَ على أغنياتِ القصبْ.
سرقتَ حقائبَ أعمارهمْ
وهي مترعةٌ بدموعي،
ولم تكُ حتّى نَبيلاً
مع الزّنبقاتِ الصغيرةِ
يا موتُ.
مرّوا سريعاً،
كأنَّ يديكَ تشدّانِ خطواتِهم للغيابِ،
كأنَّ يديكَ تَدُقّانِ قلبي
على حجرِ الحزنِ،
لكنَّ من عادةِ القلبِ ألاّ يصيرَ حطبْ.
****
( 5 )
فهل ندركُ السرَّ؟
لم ندركِ السرَّ يا موتُ
كيما نريحَ خطاكَ
من البحثِ عنّا،
كَبرْتَ
ولا يتراءى لأبصارِنَا شيبُ عمرِكَ،
لا يتراءى لنا غيرُ أحبابنا
في ثيابِ الحِدادْ.
نمرُّ كبرقٍ
على عرباتِ السّنينِ،
فلا يَستَضِئُ بأسمائنا وجهُ هذي البلادْ.
نهيِّئُ باقةَ نورٍ لشرفةِ أعمارِنا،
نِصفُها قمرٌ
من بياضِ القلوبِ،
ونصفٌ نُغطّي تقاسيمَهُ
عن عيونِ السوادْ.
خِفَافَاً يَمرُّ بنا العابرونَ،
الأَسامي تمرُّ،
ومملكةٌ من أمانيِّ عمري
وأعمارِهمْ
تركبُ النّهرَ حتّى فَمِ الملحِ،
يَخْضَرُّ وجهُ التّرابِ ...
ويَشحبُ،
يَزْرَقُّ ثوبُ السّماءِ ....
ويَسْوَدُّ,
كيف إذاً
يتعبُ الجسرُ من خطواتٍ تمرُّ
ولا يستريحْ.
سريعاً نمرُّ،
سريعاً يمرّونَ،
لا شيءَ يَعلَقُ بين أصابعهمْ
عندما يَعبُرونَ
ولا قبضُ ريحْ.