رسالةٌ ربما لم تصلْ - عمر سليمان

أكتبُ الآن من مقعدٍ
كان يشهدُ أحلامَنا في المدينةْ
النسيمُ وقد جاء أيلولُ ينشرني في الشوارعِ
أرنو الصغارَ قبيلَ المدارسِ
والبائعينَ وقد ودَّعوا موسماً في ابتساماتِ أنسٍ حزينةْ
سرتُ والشمسَ وقتَ الرحيلِ
الحمامُ يوضِّبُ صيفاً قصيراً
وسيارةٌ أطرقتْ حينَ حيَّتْ رصيفَ الطريقِ
وليْ في التنانيرِ لحنٌ يذكِّرنيْ بِكَمانِ اشتهائيْ
ويُبقي على غصنِ قلبيْ قليلاً من الزهرِ أنثرهُ في عيونِ الصبايا
الخريفُ غمامٌ
به فُصِلَتْ أذرعُ الشمسِ عن جسدِ الأرضِ
من أجلِ هذا يلوحُ بظلهِ ظلانِ لي:
واحدٌ رحلةُ الصيفِ وقتَ الصباحِ بكلِّ احتمالاتها
من حقائبِ باصٍ،أناشيدِ صفصافةٍ رشرشتها مياهُ البحيراتِ
آخَرُ ليلٌ لكانونَ عاكسَ شرفةَ بيتيْ بأمطارهِ والرياحْ
الخريفُ يذكِّرنيْ بي
بجامعتيْ أنشدتْ أغنياتٍ عن الشابِّ راحَ يسجِّلُ أحلامهُ في أناملها
كان أكثرَ أنساً...أقلَّ انكساراً ولم يكُ عشبُ السنينِ كثيفاً على لحيتيهْ!
الورودُ اشرأبَّتْ بكفِّ البحيرةِ ترنو إليَّ فأرنو إليهْ
والخريفُ يشدُّ خطايَ إلى أصدقائيْ
إلى الضحكاتِ ومزحِ التهوُّرِ،خوفِ امتحانٍ
إلى مقصفٍ كانَ يجمعنا مع قهوةِ فيروزَ، قاعةِ درسٍ، وسحرِ الجميلاتْ
خاوياً في الخريفِ ومزدحماً بصدى الذكرياتْ
خاوياً والبناءُ كَكَهْلٍ حكيمٍ يحرِّكُ جفنَ الأصيلِ ويبسمُ ليْ
في الحديقةِ تبكيْ شجيرةُ ليمونةٍ بينما أكتبُ الآنَ من مقعديْ،فتهرهر أدمعها ورقةً ورقةً
كيفَ حالكِ أنتِِ؟
لقد مرَّ خمسونَ يوماً وعشرونَ ذكرى
وما كانَ لي غيرُ ما خضَّلتهُ شفاهُكِ من عشبِ صدريْ
وما غرستهُ يداكِ من العطرِ في كنزتيْ
كيفَ حالُ الشواطئ ِوالزيزفونِ
أما زالَ يُطرقُ حزناً لبُعدِ الأحبةِ؟
ماذا عن الطُّرُقاتِ التي مشَّطتها خطانا؟
وعن وردةٍ كنتُ أقطفها خلسةً لكِ
عن شاطئٍ للتجرُّؤِ
قد طالَ بعدي وطالَ وما طالَ بعدُ الحنينْ
كنتُ أحتاجُ دفءَ يديكِ لتمسحَ برديْ
ولمسهما كي تزيلا ضباباً تعلَّقَ حولَ شبابيكِ عينيَّ
أحتاجُ أن تدَّعيْ انَّ عُطلَ جِهازِكِ أدَّى إلى أن يُعَلِّمَ ليْ
كنتُ أحتاجُ أن...
عتمةٌ مكتبيْ ودموعي
وما مال من شجرِ العُمْرِ خلفَ شرفةِ قلبيْ
فماذا أخبِّرْكِ عنِّيْ؟
لقد كنتُ أبحث عن عملٍ ووجدتُ وهيأتُ مدفأةً وشموعاً
نبيذاً وورداً وكرسيَّ حزنٍ لأجليْ
وكرسيَّ ذكرى لأجلِكِ
حتى أنادمَ وجهَ الغيابِ
وسافرتُ...سافرتُ
كنتُ أراكِ على كَتْفِ كُلِّ طريقٍ
وحينَ تفتِّحُ أذرعَهَا لي المدينةُ بعد غيابيْ
لأدركَ أنَّ اغترابيَ ليسَ ابتعادَ المدينةِ
بل بعدَُ ذاكرتي عن طيوفٍ رسمنا ملامحها في صَباها
أهيَّأتِ شيئاً؟
أراكِ تَصُفِّينَ قربَ السريرِ الدفاترَ أقلامَ حبرٍ
و مكياجَ هذا الشتاءِ القليلَ وسجادةً
وأراكِ تطلِّينَ من خلفِ نافذةٍ ويداكِ كزنبقتينِ تعانقتا في مهبِّ الحنينِ
وشعرُكِ داليةٌ أسندتْ حزنها للجدارِ
عيونكِ تقرأ ما كتبتهُ الأيائلُ عَنَّا على هامَةٍ للجبالْ
وأراكِ وقد غارَ عصرُ المدينةِ في ظلِّ مكتبةٍ
تشترينَ محاضرةً مع بعضِ الصديقاتِ
عامُ الدراسةِ جاءَ وخطوكِ مستعجلٌ
وشفاهُكِ تحملُ قدسيَّةَ الصمتِ
إذ عابثتْ وجهَكِ الريحُ
لكنْ لعينيكِ بللورُ حزنٍ يشفُّ على فرحٍ من غمامْ
سلِّمي لي على البحرِ والذكرياتِ
وما نقشتهُُ يدانا على مقعدٍ من رخامْ
سلمي لي على صفحاتِ الدفاترِ لمَّا يقبِّلُها الحبرُ
.
والليلِ والغائبينْ
سلمي لي عليَّ إذا ما التفتِّ
ولم تجدي غيرَ وجهِ الفراغِ وذكرى السنينْ
سوفَ يأتي الشتاءُ ويمضيْ الشتاءُ
وقد نلتقيْ في صباحاتِ نيسانَ
حينَ أوزِّعُ بعضَ الزهورِ بطاقيَّةٍ ذهَّبتها لكِ الشمسُ
نقرأ هذي الرسالةَ
نضحكُ منا
ونبكي...ونبكي علينا
خوتْ من سوايَ الحديقةُ
إنَّ الغيابَ وحُمَّى المواجدِ
حوليَ شمعٌ يبعثرهُ الخوفُ
كفُّ السماءِ تسحُّ بزيتِ غروبٍ بطيءٍ بطيءٍ
وأيلولُ لم يُخْلِفِ الوعدَ لكنَّ وعداً تأخَّرَ...
لا بُدَّ أمضيْ
فلي غرفةٌ كُلَّما اتَّسَعَتْ غربةٌ بي تضيقُ
سأطفئُ قنديلَ همسيَ في شرفةِ البوحِ
تشرقُ عيناكِ أصداءَ دفءٍ على ظلمةٍ من بُكاءْ
آنَ أطويْ الرسالةَ...
إني أرانيْ شتاءً طويلاً طويلاً
لهذا المساءْ