خلاخيل شامية - غادة السمان

دوماً يأتيني صوته كصرخة استغاثة من قارة أخرى: تعالي.
دوماً يناديني أميري سلمان فجأة...
ودوماً ألّي. أعرف أنني سأغادر أوروبا إليه في أميركا لنحلم
معاً بآسيا، مبللين بدموعنا منذ لحظة اللقاء في مطار كنيدي-
نيويورك، حيث نتكاتف مثل عصفورين لم تعوّضهما عن عشهما
الأم في دمشق غابات العالم.
كنت قد وضبت في منفاي الباريسي الاختياري "عدة الحماقة"
الملونة كلها لسهرة رأس السنة كجزء من مجاملتي لوعائي
الاجتماعي!
من القارة الأخرى إلى باريس جاءني صوته يرطن بالانكليزية
بعدما كاد ينسى العربية: اركبي أول "كونكورد" وتعالي. بطاقة
السفر في انتظارك عند شركة الطيران!
وأطير إليه أسابق الزمن بالمعنى الحرفي للكلمة! لقد اخترعوا
الكونكورد ولم يخترعوا بعد النسيان!!
ما زلت أراه في أحلامي طفلاً في دمشق، بالرغم من أن
أميري سلمان صار يُشبه صور عنترة بن شدّاد في رسوم أبي
صبحي التيناوي ورفيق شرف.
ما زلت أمشط شعره الأسود الجميل في أحلامي، وأسرق له
دماه الصبيانية، فيركض خلفي في دهاليز الذاكرة لانتزاعها من
اخته المشاكسة التي تكره الدمى الخاصة بالبنات، ويطلق عليّ
اسم: "حسن صبي"!
***
لماذا يستدعيني أميري الدمشقي سلمان فجأة بين وقت وآخر؟
ربما لأن "العرب هم شعب الذاكرة بامتياز". ولعله يشعر
أحياناً أن اسم "سام" كما ينادونه هناك ليس حقاً اسمه، ويشبه
قميصاً خشناً أقسر نفسه على ارتدائه منذ ربع قرن!
وربما كان يشتاق للثرثرة بلغته الأم نصف المنسيّة، وبتلك
التعابير الشامية الخاصة التي كنا نتبادلها طفلين بدءاً بكلمات
العذوبة البريئة وانتهاء بشتائم لحظات الشجار على الدمى القروية
في عطلة الصيف في بلودان والشامية من سحالي وضفادع وبوم
وأفاعٍ وأرانب وأراجيح.
في المطار، لم يقل لي إنه مشتاق للحوار معي عن
امبراطورية الياسمين حيث نتذكر معاً ذلك الوطن الغالي اللامنسي
بيتاً بيتاً وجهاً وجهاً جرحاً جرحاً شوقاً، شوقاًُ، ولم يكن بحاجة
إلى أن يقول لي ذلك كله...
كان الصمت يشدّنا دائماً أكثر من الحوار.
لم أطرح عليه أسئلة حمقاء من نمط: لماذا لا تعود؟ كان نهر
الزمن قد تدفق على مدى ربع قرن منذ رحيله، فمن يستطيع أن
يسبح تلك السنوات الضوئية للفراق إلى الجهة المعاكسة؟
***
جالسان في الدور الأخير من ناطحة السحاب في مانهاتن -
نيويورك حيث أحد مكاتبه. يسألني عن أصدقاء طفولته فرداً
فرداً. أخترع لأعمارهم حكايا حلوة، وهو يعرف أنني أكذب
ويستمتع بكذبي. من يجرؤ على تخريب الخاتمة السعيدة لحكايا
الأطفال؟
يحدّق في مطر الليل كأنه يراهم في المدة الخفي، وعبر
النافذة تبدو نيويورك كما من طائرة تتأهب للهبوط لكنها تظلّ
معلّقة كدمعة تجهل فنون الانتحاب.
نتبادل أنخاب الذكريات أكواباً من الدمع السرّي... وتدور
"آلة الزمن" بنا، وها نحن نسبح معاً في نهر بردى عفريتين
صغيرين، كأنه لم يصبح أباً لثلاثة أولاد بريطانيين - أميركيين ولم
يتحول إلى دماغ علمي مهاجر مرشّح لجائزة نوبل.
عاد كما أراه في أحلامي كلها، طفلاً يشاركني سرقة بغل
الجار لنركض به في البساتين ونسرق التفاح والمشمش! أقول له:
أتذكر يوم عات جدتنا من الحجّ، وقد حملت لنا معها قارورة
من ماء زمزم، وخصّتني بجرعة... فركضت على حناء يديها
مهرة فرح.
يقول أميري سلمان: أتذكر حصرماً ما رأيته في حلب. ذقته
خلسة وكان شهياً واستثنائي الطعم، أشهى من العنب الناضج
الشائع...
أتذكّر، حين كنت أنام باكراً مرغماً قبل الامتحانات، فأشعر
أنني ارتكبت إثماً في حق الليل والنجوم... وستعاقبني الحياة
بالسجن المؤبد داخل النوم مع الكوابيس الشاقة.
كنت حزيناً ، كجناح نسر ممنوع من التحليق، وها أنا حزين
كنسر طار أكثر مما ينبغي في دروب الهجرة!
***
اتكئ على الليل، واكتب باصبعي اسم دمشق على نافذة
الدور السبعين في مانهاتن،
فتهبّ في الغرفة رائحة الياسمين كروح غالية تمّ
استدعاؤها...
أحدّق في أضواء نيويورك، لكنني أرى مدينة تتدثر بعبيرها
الخرافي اسمها دمشق، تمتشق أنهارها سيوفاً من الخصب،
تحاصرها الأشجار كوكبةً من الشعراء.
يهذي ليل مانهاتن بأبجدية الحنان بين الغوطة وقاسيون الذي
أتسلّقه وشقيقي سلمان وقد عدنا طفلين يتسابقان بين "قبة السيّار"
و "جبل الأربعين" حتى يهبط الليل على دمشق.
أكانت تلك نجوم سمائها، أم بصمات أصابع عشاقها على
سقف ذاكرتها الشاسعة - بعدما رحلوا - وخلّفوا انفجارات القلب
الضوئية في لحظات غابرة لا منسية؟
نغادر ناطحة السحاب.
يهمس قلبي والسيارة تركض بنا في شوارع نيويورك بين
صفارات سيارات البوليس وأبخرة الجحيم من شقوق أسفلتها:
قولوا لسوريا إنني قطفت لها من كل غربة وردة...
توليب هولندا، واوركيد سنغافورة، وزنابق الشمال لم تنسني
يوماً،
عريشة الياسمين على شرفتي العتيقة، وبحار شقائق النعمان
مجنونة الحمرة في حقول غوطة دمشق...
حانات الدنيا كلها لم تمسح عن قلبي بصمات "ديك الجن"
في نبع العاصي، العاصي مثلي!
قولوا لدمشق إنها لا تزال تتدلى من عنقي كمفتاح الكنز...
عن أشجار الأبجدية قطفت لعينيها لآلئ الجنون هدية
عشق... ولم أتعب!
عبثاً نصدّق أن ذكريات الماضي التي نترنم بها ونحن في
الدرب إلى بيته المعلّق على سطح ناطحة سحاب أخرى لا تتابع
حياتها المستقلة بطفلَيْ الزمن الغابر كما كانا تماماً منذ ألف عام،
والمدينة على حالها وناسها على حالهم!... وأن تلك الوجوه
التي نستعرضها حيّة على شاشاتنا الروحية صارت غباراً مضيئاً في
فضاءات الزمن...
عبثاً نصدق أن غزلان الماضي الراكضة في دورتنا الدموية
أضغاث أحلام.
عبثاً تعلّمنا العناكب درس حياكة أكفان النسيان، ويلقننا الصدأ
رقصته على صناديق القلب.
فجأة تبدو حقائق عمرنا الراهن أكاذيب،
وتلك الذكريات الطفولية الضبابية حقيقتنا الصلبة الوحيدة!
***
تنهض الذاكرة من موتها الموهوم، ونُنشد معاً بما يُشبه
الهمس أغنية طفولية كنا ندمدم بها ليلاً حين يجافينا النوم ريثما
نغفو: "ماروشكا... في الغاب الحزين... هلا تسمعين...
أجراس الحنين"...
ننشدها معاً في وجه الليل النيويوركي والغربة الكونية وثقب
الأوزون والإيدز و "الكريديت كاردز" ودهاليز المطارات
والمجاعات والحروب والأحزان والكلاب المرفهة والتلقيح
الإصطناعي والكوارث النووية وبقية مفردات أحزان كنا
نجهلها...
ننشد أغنية البراءة كتعويذة، أو كجزء من طقوس الغربة التي
نمارسها عاماً بعد آخر لنستعيد ذاتاً مستلبة.
من يصدق أنني قطعت آلاف الأميال لأغنّي مع شقيقي وأمير
ذكرياتي سلمان أغنية طفولية بريئة ليلة رأس السنة؟
كثيرون سيصدّقون! كثيرون يطيرون مثلي في هذه اللحظة
آلاف الأميال إلى حيث يلتقون بزمن القلب في الوطن اللا منسي.
يرن هاتف السيارة... زوجته تزجرنا لأننا تأخرنا عن
السهرة، وأولاد أميري الشامي سلمان يزقزقون معها باللغات كلها
باستثناء العربية. أسأله ماذا حمل لابنتيه هدية السنة الجديدة؟
أميري سلمان ينسى أن اسمه صار "سام"، ويقول لي بصوت
جدي الشامي العتيق وبقية أجدادي: خلاخيل شامية!!
________
نيويورك 1 / 1 / 1993