حبك "كادوك"* - غادة السمان

أحببتك ذات يوم، طائر برق لم ينحن لغير الوردة، فكيف
آلفك اليوم، وأنت ترتع في سلاسلك الذهبية، وقفازاتك البيضاء
وخطبك الحماسية (الطبلية) المخاتلة، وتكتب خنوعك بأظافر
مطلية بالشعارات؟
كيف تركتَهم يسرقون من جناحيك الأفق والمدى والريح
والحلم ولا يتركون لك غير منقار للأكل والثرثرة؟
وكيف تركتُك زمناً طويلاً تعبث بمجاهلي. تضرم النيران في
شعري وأواراقي وشوارعي ومدني،
ولا أقول لك إلا سلمت يدك وأنت تعربد في دورتي الدموية
بجزمتك الحربية وتدمغ حروفي ببصمتك الصوتية؟...
مثل قرصان أرعن أحاول عبثاً مهاجمة سفن الماضي...
ونهب ذكرياتنا لأصدق أن ما كان قد كان حقاً...
فكيف أتعلّم اليوم حرفة التخلّي،
وأدع سفن الماضي تبحر بسلام في مياه اللامبالاة،
وأفهم أن الجدار الشفاف بين ما كان وما صار، مجرّة فراق؟
وكيف أقول لك بلا غصّات:
ما دام كل ما كان بيننا "كادوك"،
إذن حبك "كادوك"!
***
تذهب العاشقة إلى شواطئ المساء،
وحيدة مع أبجديتها، بلا متفرجين ولا مصفّقين...
هاربة بصوتها من مهرجان الضفادع البشرية وبطولات النقيق،
بلا أوسمة غير جرحها...
قليل من الصفاء، بعيداً عن مجالس الرياء،
ينعش الفؤاد الثري بالسكتات القلبية المتلاحقة...
فحزنها ليس أسهماً في بورصة النفاق...
ولن تبيع جرحها مقابل فضة الثرثرة.
تذهب العاشقة وحيدة إلى الذاكرة،
تستحيل دودة قز، تحيك خيوط النسيان الحريرية، وتتأمل
الشريط السينمائي للماضي بصمت داخل شرنقتها ثم تثقبها لتطير
من جديد مدجّجة بخيبتها الجديدة...
تشرع جناحيها وقد شبّت فيها النيران، وتحلّق بعدنا تعمدت
بالدم واللهب والخديعة، على طول جولات من القهر
المرفوض...
تكتشف رئتاها فرحة الأوكسجين خارج حجرات المؤامرات
الصغيرة والكبيرة، وهي تنتحب طيراناً وتعلن لنفسها: حبك
"كادوك".
***
عبثاً تخرّب بوصلتي الداخلية،
عبثاً تزرع في حقولي أشجار الحسّ بالذنب أو الحيرة.
ذات ربيع، أحببتك بجنون رائحة زهر الليمون في ليل
الشواطئ والمذابح.
تمنيت أن نواجه - متكاتفين - المسننات المعدنية الجبارة التي
تحاول أن تطحننا معاً.
ولكنك حاولت اغتيال عنفواني، وصار حبي لك يعني الإِصابة
بعمى الألوان، والتحوّل إلى دمية مطاطية تقول "سمعاً وطاعة"...
كان الحب، في عرفك، فعل طاعة بلا قناعة!
شعارك في الحب:
نفّذ ثم ناقش ، وقلْ "سمعاً وطاعة".
وها أنا أقول لك:
سمعاً وطاعة لرفضي لك.
سمعاً وطاعة يا نداء العصيان على إذلالك لي، على طول
زمن من الخيبات حين كنتُ شريكتك في الضراء لا السراء!
وها أنا أضرم النيران في تذكاراتنا، فلا يداهمني برد الفجر
الحزين.
أتدفأ بالمحرقة وأردد: حبك "كادوك"، يا من عرفانه بالجميل
مباهاة بغطرسته!
***
صرت غريبة عنك،
الغربة هي أن أفتش عن وجهك داخل ملصقاتك العتيقة في
الشوارع ولا أجده
الربة هي أن أفتش عن نبرتك داخل صوتك الميكرفوني،
عن روحك داخل جسدك المتورم،
وعن ضوئك داخل مصباحك الخابي،
وعن جمرك تحت أكداس رماد صدرك،
وعن نبضك تحت أثقال وزنك...
الغربة هي أن أسمع دقات قلبك
كما لو كانت قنبلة موقوتة ستطيح بي،
وأن يفارقني حسّ الأمان معك
فأتحول من ليلى العامرية إلى ماتا هاري،
في حكاية حب أضحت أقرب إلى المكيدة منها إلى الصفاء.
الغربة هي هجرتي إلى قاعي حين نلتقي،
اختبائي من صخبك الهوائي في مأوى أحزاني السرّية المائية
المعدنية المنصهرة.
الغربة هي موت الانسجام بين المقلاع والحجر والشجار بين
الينبوع والمطر.
الغربة هي انكسار الانسجام بين الطيران والريح، وها أنت
تطوي أجنحتك وخطبك الحماسية، وتنكبّ على فواتيرك.
وها أنا أتأمل القمر الحزين، وقد عرّته الغربة من ثيابه كلها
إلا من ضوء كبريائه، وهو يروح ويجيء على مدى دهور باحثاً
في الأبدية بين مدارات المنافي عما لا يدريه،
دون أن يخلع ضوء كبريائه.
الكتابة، هي أن أتعلم منه،
ويومها سأقول لك بصوت الرعد: حبك "كادوك" يا من
أحرق مدينتي وزمني...
...
22 / 11 / 1993
__________
*"كادوك" لفظة فرنسية ( Caduc ) تعني شياً تخطاه الزمن، وقد شاعت عربياً بعد استعمال "أبو عمار" لها في بيان هام له.