الأبدية لحظة غربة - غادة السمان

كيف أغلق ملف السفر؟
كيف أتحوّل إلى مقعد - خارج طائرة - !...
مقعد حجري منحوت في صخور قاسيون؟
كيف أصير شجرة لا تغادر جذورها ؟
كيف أترجَّل عن الرحيل لأعود حبة رمل في شطآنك التي
طالما ارتجفت في الانفجارات؟
وكيف أقول لك حنيني إلى الياسمين دون أن أقوله؟
على ضفة أشواقي المستحيلة انحنى البكاء وبكى ، وشهقت
رياح الليل، وأنا أحاول عبثاً إغماد خنجري في صدر تلك
الغجرية الشرسة: ذاكرتي...
أحدق في نهر السين من النافذة وبين أهدابي لا يزال نهر
بردى يركض والنيل ودجلة...
أحدِّق في زحام السيارات وفوق عينيّ يركض المحراث
القروي العتيق وأفراح طفولتي فوق عربات "الدريسة" على حقول
القمح المقطوفة بالنضج...
أحدِّق في رفاق السهرة بالمطعم الباريسي وأتذكر سندويشات
"أبو علي" في رأس بيروت، ونحن نلتهمها على شاطئ البحر
داخل السيارة مقابل "فندق الريفييرا"... وحين يمر بائع
الياسمين نشتري عقداً نهديه للبحر...
من قال إن الجسد لا يستطيع أن يكون في مكانين مختلفين
في وقت واحد، وأنا أعيش ذلك منذ خمسة أعوام؟
***
أنشد تحية العَلَم للمنفى ،
وأنشر جسدي المقدّد بالغربة،
على شطآن خرافية السحر...
وأعلن أنني مبنّجة بالحاضر، لكن حبك
يطل برأسه كعشبة خضراء حياً ونضراً... يشرق فوق
الأراضي المحروقة للقلب، وتفوح منه رائحة ليالي بيروت
المعطرة بالبحر والملح والهذيان... (تلك العاشقة التي تسكن
جسدي، متى تغادرني وتدعني بسلام؟)...
هل بدأ موتنا يوم اخترعوا لهزائمهم مفردات جديدة،
وزوّروا الكلمات فضلّت الحرب طريقها إلى ساحة المعركة
الحقيقية؟
منذ ذلك اليوم ونحن نركض ونلملم عبثاً ذلك العمر المهشم
بين الليل والليل، بين الملح والجرح، بين الأفق والمقبرة، بين
الوسادة والكابوس...
***
تعبنا من غربة تتشرد داخلنا ... تسافر في أوعيتنا الدموية،
وتركب قطارات نبضنا، وتقطع تذكرة إلى نخاع عظامنا
وتنتحب في عمق أعماقنا...
كل من يحنّ إلى مدينة يعودة إليها. ولكن ماذا يفعل من
يشتاق إلى مدينة لم تعد موجودة إلا في خرائب الذاكرة؟
وكيف يركب آلة الزمن إليها؟
كيف أقنع نفسي بأنك صرت جزءاً من مسحوق الذاكرة
الأبيض، المنثور في الضباب المُخَدِّر للنسيان؟
ماذا أقول للطيور التي تسكننني
وفي أجنحتها جوع التحليق أبداً؟
وهل عليَّ أن أغدر بماضينا الجميل معاً
رشوة لحراس مستقبلي؟
***
نحن الذين توهمنا اننا رحلنا يوم رحلنا...
نعرف أن الحلم سيسوقنا إلى خوفنا الجنون...
وأن الزمان الرديء يعني
أن يصير الحنين إلى الياسمين هذياناً...
والانتماء إلى الطحالب طموحاً.
ولكن، ما حيلتنا مع قلبنا السنونو،
الذي يرفض إرشادات البوصلات المزوّرة،
مصرّاً على التحليق صوب الربيع؟