الأبدية لحظة ذكرى - غادة السمان

في مثل هذا اليوم الخريفي الجميل منذ سنوات طويلة،
غادرتكِ يا دمشق وأنا أقسم كاذبة على فراق أبدي كما يحدث في
شجار العشاق جميعاً.
ما زلت أذكر كيف قدتُ سيارتي وحيدة صوب بيروت وأنا
أغيظك بشهوتي للرحيل إلى تلك الأماكن السحرية كلها التي
طالما قرأت أسماءها على الخرائط وحلمت بالذهاب إليها.
في لبنان استقبلتني الألعاب النارية في مهرجان، واشتعلت
الذرى بالنيران الاحتفالية. سألت صبياً في "الكحّالة": هل
تحتفلون بوصولي الليلة إلى بلدكم؟ ضحك وقال: اليوم "عيد
الصليب". فرحت بالزينات والمشاعل ولم أكن أدري أن احتفالاً
طويلاً بصلبي على أشجار الغربة بين القارات بدأ تلك الليلة...
قبل أن أنام، راودتني الورقة عن نفسي لأخطّ لك رسالة ما،
فنحن لم نفترق قبلها ليلة واحدة، ولم يكن بوسعي أن أنام دون
أن أذكرك وأتشاجر معك. وما كدت أخط اسمك على الورقة
البيضاء حتى تحولت إلى حقل شاسع من الياسمين!
وعرفت كيف يغطي الحنين مساحات العتاب: إنه قدر
العشّاق.
***
أرحل أرحل. أبحث عنكِ طويلاً ولا أجدكِ ، ويهبط الثلج
بهدوء عارياً وعلى رؤوس أصابعه في القارة الأخرى.
ومثله، أهبط بهدوء حتى قاع ذاكرتي.
وهناك، أجدكِ بانتظاري كالمعجزة...
وتهب رائحة الياسمين حتى حافة البكاء...
***
يوم غادرتُكِ ، عبأت عمري في عدة حقائب، وها أنا أتشرد
بها من بلد إلى آخر، مثل راع يقود قطيعاً ضالاً من الخرفان في
الصباحات الوعرة، بين مراعي الغيم، تطارده بروق الذاكرة
وتحرقه صواعقها...
حبكِ طائر تسلل إلى مركبي مزقزقاً بأصوات صديقات
الطفولة، وبنى عشه ولكن داخل شراعي، فغطاه الياسمين الذي
كان يتسلق شرفتي الدمشقية العتيقة وكانت جدتي قد زرعته بيدين
تفوح منهما رائحة ماء الزهر والحّناء وتضمران الوشم البدوي
الجميل...
***
سيدة الرحيل
تزوجَت من المجازفة
وأنجبا الدهشة.
سيدة الرحيل، دموع من حبر، وشفتان من ورق،
ورئتان تتنهدان عطر الياسمين...
***
في السهرة الباريسية، يتنزه حزني بين المدعوين وهو ينثر
النكات والضحكات، وفي عنقه عقد من الياسمين عمره ربع قرن
وما زال نضراً كأنه قُطف للتو...
في السهرة العامرة يلتقي حزني بالحنين، فيمشيان معاً يداً
بيد، ويرقصان في الحلبة خداً على خد.
حبكِ يا دمشق بجعة بيضاء تسبح فوق مياه الذاكرة المعتمة
الغامضة بكل صمت الياسمين وسرّيته.