أربعاء الجمر تحت الرماد - غادة السمان

حين عُدتُ إلى وطني بعد ألف عام من "النورسة" ، لم
يعرفني أحد. ومثل شبح يرفرف على تخوم الصمت، كانت
أيديهم تخترقني على حافات المصافحة والعناق المستحيل.
وحدها النجوم عرفت طفلة الشواطئ، فأمطرت دموعها
طويلاً ليلة وصولي، وأخفت وجهها بمنديل الغيوم الشاسع
فتوهم الناس أنها تمطر في ليلة دفء صيفية.
ابتللت بالدمع حتى قاع عظامي.. وناديت أحبابي الموتى
بحنجرة مقطوعة، فردّوا عليّ بأصواتهم النضرة. وحدهم
أصدقائي الأحياء كانت أصواتهم ميتة.
في بيروت لم أجد باب بيتي المحروق،
لكنني وجدت كومة من المفاتيح الصدئة، قرب الجدران
المهدمة. فعلقتها على بقايا الأطلال ، كالصور التذكارية!
أسمع أنين الغبار، فوق جثث المقاعد،
وبقايا ذلك الزمن في انحناءة وسادة اتكأتُ عليها ليلة الفراق.
آه العنكبوت! بهدوء وصمت ما زال يحيك الموت قابعاً في
الركن، أو مهرولاً على رؤوس سيقانه البيض كالثلج في
المقبرة... هذا هو الزمن الساخر منا، يجوع فيه الرجل ويأكل
بثدييه، في ليل الرقص الهمجي، والكل مخدّر برايات ورايات.
يصفق، دون أن يتذكر لمن ولماذا.
في البدء كانت الكلمة، مليئة بالأخطاء الإملائية، وسوء
التفاهم. آه كم ضيّقوا علينا شرنقة الكلمات فصارت مصيدة
فئران... وخرجنا من جلدنا إلى فضاء الحرية في مجرات الله
الواسعة!
ومازلنا ننتحب لأننا نريد الحرية والوطن معاً... ولكن
كيف؟