هواجس في قارب الرحيل - غادة السمان

تحت مظلة فقدان الذاكرة...
عبثاً أخدر وجع الروح،
بابرة ضوء الشمس في العروق...
عبثاً ترفع مياهي الأقليمية رايات النعاس...
ويصدح قلبي بنشيد النسيان، وأنا أسدّ أذنيَّ بأصابعي
واحشوهما بالرمل كي لا تحمل لي الرياح أصوات ما يدور
هناك... كأنني لا أريد حقاً أن أنسى ، لكنني أزني مع النسيان
من وقت إلى آخر... كأنني مصمّمة على الاستمرار في درب
الحلم والدهشة...
كأية مجنونة مثالية سأظل أحلم بتلك التلال البيروتية البحرية
واقحوانها الربيعي الأصفر (الذي تغطيه أكياس القمامة الزرق
وتلالها منذ عشرة أعوام أو أكثر)... وسأظل أحنّ إلى تلك
الشواطئ المزروعة بطيران النوارس (والتي نمت عليها الجثث
والمقتول..)...
لستُ ماسوكية تتسوّل ضربة من سوط من جلادها للتتعذب
وتسعد...
أريد أن أظل أحلم... كي أظل أحيا...
محاضرة قصيرة: الحلم بمعنى ما هو إرادة التبديل... إنه
الخطوة الأولى نحو الترميم.. إلى آخره (ثمة امرأة ساخرة
تقطنني تقرأ ما كتبت للتو، وتمد لسانها لي هازئة ويدها تحمل
الممحاة... وها هي تمحو بقية المقطع)!...
***
لا أريد أن أعلّق حبك على المشجب
مع معاطف الشتاء الغابر،
واذهب إلى الصيف
بعدما غسلتك من رحم حروفي...
لقد حبلت ذات يوم بأطفالك الذين لم يولدوا بعد،
ولن أذهب إلى مواسم النجوم واخلّف زمانك ورائي كيساً من
العظام في ملاجئ العجزة قرب موائد الشفقة المؤذية...
أيها الوطن المستحيل، أعرف أن الانحياز إلى الحياد هو
عدوانية اللامبالاة... وأنا منحازة إلى موتي بك وحياتي
بك...
يسرقني الحنين إليك من كل مكان... أظل أسمع وقع
خطواتي بين الموجة والدمعة على أرصفة بيروت... هناك ذقت
للمرة الأولى طعم الحرية والمسؤولية المطلقة في آن...
ولفظت من حنجرتي رمال صحارى وُئِدتُ تحتها وتراكمات في
حجرات روحي طوال عصور...
تحت عينيك تابعت مسح العنكبوت التاريخي عن أهدابي،
واكتشفت متعة البصيرة قبل البصر...
في بيروت نشرت أجنحة الدهشة، وطرت وحيدة في دروب
الفضول حتى قاع البراكين...
في بيروت ذقت طعم السقوط إلى القمة والإقامة وحيدة
داخل عملي وتعلّمت كيف تترمم الأجنحة المتكسرة ويخرج
الفينيق من رماده...
***
أيها الشقي... لا تقلْ لي مات أهلي... وأهلك. جئتهم
ذات يوم في بيروت محروقة الأهداب مكسورة النوافذ
والخاطر...
فأخذوني إلى حنانهم الأخضر، وغمروا جلدي المحروق
بماء الورد والياسمين وصلوات البسطاء والطيبين، قاسموني
حبهم المنشور في الطرقات كخبز الفقراء... وضمّدوا قلمي
ومنحوني البحر والحب محبرة...
شربت من بئر لبنان كرماً علمتني أمي دمشق ألا أرده بغير
الكرم... وها أنا أرمي في بئره بحصى الأبجدية وأصلّي كي
تتحول إلى ماسات في قعره...
لأنني شربت من بئر لبنان مياه الصحو الموجع،
لأنني أنصت إلى حكايا القاع والأسرار، اخترقتني صرخة
الماء، ولم يعد ثمة ما ينسيني نشيد الخصب الذي تعلّمته هناك.