عاشقة في متاهة الورقة - غادة السمان

من الحبر تعلّمت حبك..
قطرة واحدة تركض طويلاً على البياض..
من العود تعلّمت حبك،
صرت وتراً وتركت عاصفتك تعزفني...
من النوارس تعلّمت حبك،
تعيد كتابة الأفق بأجنحة الرحيل خلف الضوء..
من الأطفال والمجانين تعلّمت حبك،
اللغة مرآة القلب في عريه المطلق..
من النملة تعلّمت حبك،
حبة قمح أسطورية حتى الرمق الأخير، تلاحقها..
من العصفور الدوري تعلّمت حبك،
سعيدة بشجرتك..
وسعيدة بشهية التحليق: لست عصفوراً في اليد!...
***
ها هي حروفي تجنّ..
داخل أقفاص الواقع اليومي،
المتورم تفاهة وصدأ تحت ذباب الثرثرة..
ها هي حروفي تجنّ،
وتضرب رأسها بالقضبان حتى النزف..
آه كيف أروّض روحي الأثيرية،
في أبدية الخمول؟ وأسدّ مساماتي العاشقة،
بالغبار المتراكم على الوجوه حولي.. والشفاه..
كيف أعلّم شهيقي وزفيري الرتابة والطاعة،
وحرفة الانتماء إلى الأطلال، بدل الأفق؟
آه كيف تستقر أعماقي القلقة كالزئبق،
في أوعية الركود المتسنقعية
لدورة دموية، لم تدرْ منذ عصور؟..
... وكيف أحيا إذا لم أحبك،
وأشاركك سرقة النار وحب الأٍسرار؟...
***
ما الذي تفعله ذاكراك لتصير لؤلؤة سوداء
تتدلى من عنقي إلى الأبد؟
ما الذي يفعله البجع..
راكضاً بالحبر الأبيض على جناحيه،
فوق دفتر الغابات والضباب،
وأنا أهرول في قارّات ليست لي..
وأنادي حبيباً ليس لي؟
وما الذي أفعله بجثث الحروف،
إذا لم أحبك؟ كيف تدبّ الروح
في اللغة، وأشتعل بالحب المستحيل
لملايين نساء وطني الصامتات، مقطوعات الحناجر؟
وكيف أطلق سراح صرختهن،
إذا لم أختر حبك وأعيشه وأموته..
وأسبّحه داخل محبرتي هائمة على وجهك،
وجهك اللامنسي ، بحثاً عن وجهي الحقيقي؟..
***
... يظل القلم يقتحم يدي عنوة
ويجرّها إلى متاهة الورقة، لأكتبك وأتنهدك
وأعيد السلالم المعدنية المتحركة للزمن إلى الوراء
وأرسمك داخل تلك اللحظة اللامنسية،
وأنت تهمس لي: "أحبك"..
تقولها خلسة عن نفسك، وبحدّة
مثل طعنة خنجر سريعة في الظلام..
وجسدك قارّة،
الداخل إليها مفقودة، والخارج أيضاً!..
وعيناك شروق الليل، برق الأمطار الحارة.
أذكرك . أتنهدك. أستعيدك وأنا أنحني على أوراقي،
كساحرة تستحضر وجه حبيبها في مرآة،
وأكتبك بجموع القلب إلى المستحيل،
وحين ترف بأهدابك على الورقة، وتتنفس حياً،
أقفز إليك داخل الدفتر،
لنركض معاً هاربين بين السطور..
_________
1988/11/18