بيروت - فيصل خليل

أخبارك تسبق فنجان قهوة الصباح
وتنتظرني على طاولة الغداء في المطعم
وتنسكب في القدح وتفيض على الطاولة والكراسي
وترتقي منصَّات الغناء في السهرة
بيني وبينك يا بيروت خطّ ساخن
معزوفة أوركسترالية في القلب
مرَّةً تحمل ألحانها نسمات الرَّبيع
و مرَّةً تنذر بعاصفة هوجاء
كأحد أصدقاء بيروت
سأظل أحلم ببيروت الشهية
كتفاحة آدم
ببيروت الخارجة من الطوفان
كسفينة نوح
ببيروت آخر تسريحة
وآخر زَيّ
وآخر مجلة أو كتاب أو كلمة دارجة
وآخر حديث ملفَّق
أو شائعة
أو نميمة
ببيروت الوردة والنافذة والشجرة والماء والغناء
ببيروت الكذبة الكبرى والحقيقة الكبرى
ببيروت الغائبة في نشرات الأخبار
لكن الحاضرة في الحواس
في السمع وفي الأصابع العشْر
ببيروت الهواء الذي يجعل من العبد حرَّاً
الأصمٍّ يسمع الهمسة
والأبكم لا يتوقَّف عن الثَّرثَرَة
والضَّائع يعثر على ذاته
ببيروت المساحات المتَّسعة
والماء المتدفِّق
والرَّبيع المستمرّ
ببيروت الظلال والابتسامات وقوافل الوعود القادمة
العرَّافة التي تحمل في عينيها كنزاً جديداً
عند كل حلم
وعند كل يقظة
وعند كل سهرة
وعند كل غمزة
وتنصَّب كل يوم
سندباداً بألف رحلة
يعبر البحار والمحيطات
ويرجع بالغنائم والذكريات
وبالحنين إلى الرحلة القادمة
الحروف
تعثر على الذَّهب في بيروت
والكلمات تحتفل بألغازها
وتستعرض مفاتنها النارية
بيروت أكثر من كتاب
أكثر من أبجدية كانت
أكثر من حجارة وأعمدة وهياكل
بيروت تفتح عينيها كل صباح
على كتاب جديد
وأبجدية جديدة
ونقوش جديدة
وحبْر جديد
وعطر جديد
وسماء جديدة
وكل صباح تنهض من فراشها
أجمل مما كانت
وأشهى مما كانت
بيروت كيوبيد العواصم
تطلق سهماً
فيخترق القلوب في ألف عاصمة وعاصمة
دفعةً واحدة
كأحد أصدقاء بيروت
لن أعلن استقالتي
من التنزه بعد الغروب
في شارع الحمراء
و وفاءً لذكريات قديمة
سأشرب القهوة
في شرفة إحدى الشقق المطلة
على شارع فردان
وفي كل صباح
سأتأمَّل صخرة الرّوشة
وأردِّد بصوت مرتفع:
هذه صخرة للحياة
بيروت لا يدركها التقادم
وشرفات الذكريات فيها
لن تكون يوماً آيلة للسقوط
وكأحد أصدقاء بيروت القدامى الجدد
أتذكَّر بيروت هذه الليلة ككلِّ ليلة
كل ليلة وليس كل صباح
كل ليلة وليس كل ظهيرة
كل ليلة لها أنفاس بيروت
و ضحكات بيروت
ونميمة شعراء بيروت
وأضواء شوارع بيروت
وزحام فنادق بيروت
وأحلام بيروت
ومواعيد وصول الطائرات القادمة
ومواعيد إقلاع الطائرات المغادرة
في سماء بيروت
بيروت ( قل لمن لام في الهوى )
نعم يا بيروت
الحُسْن وحدَه يأمر
وليس الرَّصاص
الحب وحده يأمر
وليس السكاكين
الحريَّة تأمر
وليس البلْطات المسنونة
بيروت الفكر
والطَّريق
والآداب والأديب
والحسناء
ولماذا لا ؟ بيروت الصنارة
و الشَّبَكَة و
( تعرفون بيروت )
في اليوم الحامض
نتذكَّر بيروت
لأنها حلْوة
وأمام الأبواب المغلقة
نتذكَّر بيروت
لأنها بوَّابة مفتوحة
وفي الليل الحالك
نتذكَّر بيروت
لأنَّ ليلَها حافلٌ بالنّجوم
وفي ساعات الصَّمت
نتذكَّر بيروت
لأنها لا تتوقَّف عن الثَّرْثَرَة
ونتذكَّر بيروت
حين نسمع ضوضاء الحديد
بينما ترفرف في بيروت أجنحةُ الفضَّة
بيروت ليست فردوساً
ولكنَّها ليست جحيماً
ليست عَسَلاً ولَبَناً
ولكنَّها ليست مدينةً حَجَريَّة.