حُلُمَان مِنْ عِطْرٍ ومَاء .. - قحطان بيرقدار

ـ والأَمْرُ كُلُّ الأمرِ أنَّكِ غائبَهْ..
وأنا هنا أمشي على الجُدْرانِ،
أَرشفُ آخِرَ القَطَراتِ منْ فَرَحي،
وآخرَ لحظةٍ منْ صَوتِكِ الغافي على وَجَعي..
ولا أبكي على شيءٍ..
كأنِّي قدْ فَقدْتُ الدَّهْشَةَ الأُولى
بأنَّكِ آخرُ النَّسَمَاتِ
في جَوٍّ منَ النّيرانِ والقَتْلى..
وأنَّكِ حالَتي الأغلى عليَّ،
وأنَّكِ الأَحْلى
أمامَ تَلَهُّفي لِلشِّعْرِ..
أَرْشفُ آخِرَ الكلماتِ منْ ثَغْرِ السَّماءِ..
أُزَيِّنُ التَّشْوِيْهَ في تكوينِ مَنْ يَـثِبُونَ
في عَينيَّ حتّى لا أرى
حَوْلي قُروداً وَاثِبَهْ...
وَلديَّ أحلامٌ وأحلامٌ..
لديَّ توَتُّري ما بينَ أيامي..
لديَّ تَوهُّجي في الليلِ حينَ يَجيئُنِي
نَبَأٌ سماويٌّ بأنَّكِ سَاهِرَهْ!..
وتَوهُّجي بعدَ الظَّهيرةِ..
حينَ يَنْصَهِرُ الكلامُ بداخلي
وأنا أَضُمُّكِ في حِوَارٍ ما لَهُ هَدَفٌ
سِوَى أَلاَّ يَظَلَّ الصَّمْتُ قُدْرَتَنا الوحيدةَ
في مُواجَهةِ الأَشِعَّةِ والعُطُورِ الكاسِرَهْ..
هذا أنا يا سَاهِرَهْ!
أَصْطادُ أسماكاً تُحَلِّقُ في فَضَائِكِ
حينَ يَقْتَحِمُ انتظاري..
كي أُوَزِّعَها على أطفالِ رُوحي
في المساءِ لِيَأْكُلُوا لَحْمَاً طريَّاً..
ثُمَّ يَسْتَلْقُونَ فوقَ أَسِرَّةِ الذكرى..
وَأَسْرِقُ منكِ تاريخي وفَلْسَفَتِي..
وشَكْلَ مدينَتِي أيَّامَ آدَمَ
أسرقُ الفَصْلَ الذي أَهْوى
وأسرقُ ما تَبقَّى منْ ربيعِ الشِّعْرِ
في أيلولَ.. أسرقُ لحظةً أُخرَى
منَ الفَرَحِ الأخيرِ..
وأسرقُ الأُولى اشْتِهَاءً لا يُحَدُّ ،
وأسرقُ الأُخرى اشْتياقاً لانْتِهَاءِ الظُّلْمِ..
أَسْرِقُ ما يُخَلِّصُني منَ الهَذَيانِ..
أسرقُ جَنَّةً كُبْرَى،
وأَنتظرُ الشُّمُوسَ الغَارِبَهْ..
فالأَمْرُ كُلُّ الأَمْرِ أنَّكِ غَائِبَهْ..
ـ آتٍ إليَّ.. تَظَلُّ تَتْبَعُنِي كَطَيفِكَ
في مَسَاءِ الشَّامِ في أَيَّارَ..
لا تَنْسَى ولا تَسْلَى..
ويُعْجِبُني انتظارُكَ عَوْدَتي
وأنا أمامَكَ أَنْتَظِرْ!..
ـ أنا قدْ أُحبُّكِ عندما
أنجُو منَ السُّمِّ الذي يَمْشي على قَدَمَيْنِ
منْ نارٍ وطينٍ حولَ إحسَاسي ،
ويَجْعلُني أَسِيْرُ وأَنْفَجِرْ!..
ـ وأنا أُحبُّكَ عندما تأتي..
أحبُّكَ عندما تَأْوِي إليَّ..
أُحِبُّ صوتَكَ حينَ يَرسُمُ فوقَ صَدْريَ
شَمْسَهُ الصَّيفيَّةَ الإشراقِ..
كُنِّي كي أَكُونَكَ، وَلْيكُنْ ما كانَ وَهْمَاً،
واقرأ الآنَ الحقيقةَ واخْتَصِرْ..
ـ أنتِ الحقيقةُ حينَ تُخْتَصَرُ الحقيقةُ،
فَاسْتَمرِّي في دَمي أبداً نشيداً لا يَغيبُ..
ولَحِّنيني..
لَحِّني صَمْتيْ على نَغَمِ البَيَاتِ ،
وأَطْلِقيني منْ كُهُوفِ الارْتحالِ إلى الضَّلالِ
إليكِ أنتِ..
وأينَ أنتِ؟
تكسَّرتْ حولي غُصُونُ الجُلَّنَارِ..
تكسَّرتْ كُلُّ المقاعدِ في حديقةِ خاطِري..
وتَفرَّقَ الحَشْدُ العظيمُ منَ العصافيرِ التي
جاءتْ لأَسْمَعَها وتَسْمعَنِي..
تكسَّرتِ المشاعرُ فوقَ بِلَّوْرِ الزَّمَانِ المُنْكَسِرْ...
ـ إنِّي هُنَا..
والأمرُ كُلُّ الأمرِ أنَّكَ غائبُ..
فمتى تَعودُ لِتُكْمِلَ السَّطْرَ الأخيرَ
منَ القصيدةِ؟
عُدْ لِيتَّضِحَ التَّوحُّدُ في رُؤَايَ
وفي رُؤَاكَ..
أنا ليسَ لي إلا يداكَ..
وليسَ لِلبَحْرِ الغَريقِ بداخلي
أَمَلٌ سِواكَ..
فمتى تَعودُ.. متَى يَعُودُ الهَارِبُ؟!
ـ أيَّارُ حَيَّرَنِي..
وغَيَّرَني وأَطْلَعَني على قحطانَ
حينَ يكونُ حَيَّا!..
أيارُ فَاجَأَني بِبَعْضِ جُنُونِهِ..
أيَّارُ أَرْجَعَني إليَّا..
مِنْ صُدْفَةٍ في شارعٍ قبلَ الغُروبِ بِسَاعةٍ
حتّى ذَبحْتُ قصيدَتي ذَبْحَاً أمامَكِ
كي نَظَلَّ بِرُوحِنَا مُتَوَهِّجَيْنِ..
وغائبَيْنِ عنِ الزَّمَانِ
وعَائِدَيْنِ.. وذَاهِبَيْنِ..
كأنَّنا حُلُمانِ منْ عِطْرٍ ومَاءٍ..
لا حُدودَ لِمَا لَدَيْكِ
ولا حُدودَ لِمَا لَدَيَّا!..
أيارُ يَفْهَمُ كُلَّ ما يَجْري،
ويُخْبِرُنا بِسِرِّ هُرُوبِنَا منْ سِرِّنَا..
أيارُ يَفْهمُنا..
ورُوحُكِ لم تَزَلْ مُمْتَدَّةً كالشَّمْسِ،
لكنْ لا تَميلُ لِمُسْتَقَرٍّ..
لا تَغيبُ عنِ القصيدةِ في المساءِ
وتُدْرِكُ القمرَ المُغَطَّى بالرمَادِ...
ضُمِّي انْفِرَادَكِ لانْفِرادِي..
أيارُ يَصْدِمُنَا..
فَثَمَّةَ ما يُحَرِّضُنَا
ويَجْعَلُنا نَخَاُف منَ البِعَادِ..
ضُمِّي فُؤادي..
فَاجِئيني كُلَّما أَحْبَبْتِ.. نَادِيْ
لَحْظَتي الورديَّةَ الإحساسِ..
نادي
ذلكَ الطِّفْلَ الذي مازلتُ أَتْبعُهُ ويَهْرُبُ
إنَّهُ أَمَلي الوحيدُ لِكَيْ أَرَى
كُلَّ الحَمامِ الأبيضِ الهَدَّالِ
قدْ غَطَّى بلادي..
ضُمِّي بلادي..
يا ابنةَ البلدِ الأخيرةَ عَلَّهَا
تَرْتَاحُ منْ شَبَحِ السَّوَادِ...
ـ أَسْرَفْتَ في أحلامِكَ
الخضراءِ والحمراءِ والسوداءِ والبيضاءِ..
لا تَحْلُمْ سِوى عَنْ نَفْسِكَ العَطْشَى
وَدَعْنِي.. إنَّ لي حُلُمي..
فَدَعْنِي حُرَّةً في الحُلْمِ..
دَعْني.. أَسْتَمِرّ وأَسْتَمِرّ..
فما أنا إِلا أنا
نَهَرٌ يَفيضُ ولا يَفيضُ..
وجَنَّةٌ تُعْطِي ولا تُعْطِي..
فَأَحْبِبْنِي إذا ما شِئْتَ،
واترُكْني إذا أَحْبَبْتَ..
وَاحْمِلْني إذا ما فَارَ تَنُّورُ القَصيدةِ
منْ عُرُوقِكَ في سَفينةِ حُبِّنَا الأَبَدِيِّ...
أَبْحِرْ بي إلى أُمِّي وأُمِّكَ في مَخَاضِهِمَا
على إيقاعِ أيلولَ المُسَرْبَلِ بالحَنينِ...
كأنَّنا حُلُمانِ منْ عِطْرٍ وماءٍ
مثلما قَدْ قُلْتَ..
أَبحِرْ بي إلى مُدُنِ السَّلامِ..
إلى مَدِينَتِنَا دمشقَ أَضُمُّها
حتّى يُغَطِّيها الحَمَامُ الأبيضُ الهَدَّالُ
أبحرْ بي إليكَ.. إلى أبي والحُبِّ..
لا تَحْزَنْ كثيراً.. لا تَخَفْ منْ ظُلْمَةِ الظُّهْرِ
الأخيرةِ في الحياةِ،
وَعُدْ إليَّ وعُدْ إليكَ وَلا تَنَمْ..
فالليلُ أَقْصَرُ منْ قَصيدتِكَ التي
ما زلتَ تَنْسُجُها على أَنْوَالِ رُوحِكَ..
لا تَقُمْ..
فالقهوةُ السوداءُ لم تَحْضُرْ ،
وَلمْ تَأْتِ العصافيرُ التي سَمِعَتْ بنا،
وأنا هُنَا..
والصَّيْفُ يَمْضي..
إنَّهُ أيلولُ يَحْضُرُ كُلَّ عامٍ
كي تَزِيدَ شُمُوعُنَا أَلَقاً..
فأبحرْ بي وأَبْحِرْ
أَيُّها البَحَّارُ في بَحْرِ الخُلُودِ..
ـ عُودِي إليَّ فأنتِ عيدي..
في.. مِنْ.. إلى.. وَأمامَ.. خَلْفَ..
وَفَوْقَ.. تَحْتَ..
وعِنْدَ... بينَ يَدَيْكِ عيدي...
سافرتُ منكِ ولمْ أَزَلْ
حُلُماً حَرِيْرِيَّاً عليكِ، ولَمْ أَزَلْ
نَبْضَ الوريدِ...
أَنْوي الرُّجُوعَ إلى دَمي..
أَنْوي الرُّجُوعَ إلى النَّشِيدِ..
لا تَتْرُكي سَفَرِي يَطُولُ..
تَنَزَّلي مَلَكَاً شَآمِيَّاً عَلَيَّ ولا تَعُودِيْ!..
ـ مازلْتَ أَبْعَدَ منْ يَدِيْ عَنِّي..
ـ كأنَّكِ في عُيُوني..
ـ تَرْجِمْ إلى العَربيَّةِ الفُصْحَى سُكُوني!
ـ صَوْتٌ.. صَفَاءٌ.. صَدْمَةٌ..
صَمْتٌ صَرِيحٌ.. صَحْوَةٌ
في قَلْبِ أَهْدابِ الجُفُونِ!..
ـ مَنْ أنتَ؟ قُلْ لي!
ـ لمْ أَزَلْ وَحْدِي..
ـ وَمَالَكَ؟
ـ وَرْدَةٌ في ظِلِّ شَعْرِكِ..
ـ لا أَرَاهَا..
ـ رُبَّمَا هَبَّتْ عليها الريحُ
فَانْتَثَرتْ بعيداً كالغُبَارِ..
ـ شَغَلْتَنِي..
ـ وَشَغَلْتِنِي..
إنَّ الَمَشاعِرَ في المَشَاعِرِ ذَائِبَهْ..
والعُمْرُ كُلُّ العُمْرِ أَنَّكِ شِعْرُهُ..
والشِّعْرُ كُلُّ الشِّعْرِ أنَّكِ عُمْرُهُ..
والأَمْرُ كُلُّ الأَمْرِ أَنَّكِ غَائِبَهْ...
ـ ... ... ... ؟
ـ ... ... ... !
ـ ... ... ...
ـ ... ... ...