الشتاء العجوز - محمد الماغوط

شام...
كل ما أكلته وشربته وعشته وهم وهراء...
وأنت وحدك الحقيقة
صوتك البعيد كأم وطفلة
يغنيني عن هاندل وموزارت
وحفيف الأشجار في الليل
*
آثار قدميك على الرصيف
رائحة شعرك في الهواء
نمشك الجميل المعبّر كنمش الفولاذ
يغنيني عن فان كوخ وغويا وسيزان
*
وأنت يا سلافة
عندما أنظر إلى عينيك الخضراوين العميقتين كبحر الظلمات
وإلى أسنانك الناصعة كياسمين الشتاء
بكل هذا الولع والاستغراق
أستغرب كيف يخطر لك بأنني أوثر شام عليك
وهل يعقل أن أحب نصف وطن؟
وأعبد نصف إله؟
أنت لا تعلمين مثلاً
بأنني صباح كل عيد
أتلفع بثيابي الواقية من المطر أو الشمس
وأتوكأ على عكازي
لأقرأ الفاتحة على طيورك وقططك المدفونة
في الحدائق العامة
وأغمر قبورها الصغيرة بالزهور والقبلات
*
آه يا ابنتي
هناك غير الحسد والغيرة وما تقوله الأبراج وحظك هذا اليوم
وحظك هذا الأسبوع والإختباء في زوايا البيوت والحدائق والفنادق
فللأرق وللدموع والجنون والأساطير والأديان .. زوايا
وإن شئت الأمان وراحة البال
هناك الحب
الفرح
الصداقة
الوفاء
الحنان
التضحية
الفداء
الإبداع
الإلهام
الربيع
الشمس
القمر
النجوم
فهيا ناوليني يدك فالحياة أجمل وأعمق من عينيك مهما كانتا
عميقتين وجميلتين
*
معظم المبدعين والثوار العظام
يحملون أطفالهم مسؤولية التنازلات المتوالية...
أمام الرغيف
والحذاء
وقسط المدرسة
والدروس الخصوصية
وثياب العيد
وحبكما علّمني تحمّل الجوع والعطش والألم
تحت الشمس والمطر والثلج والمشانق
والصمود أمام المقابر الجماعية ودبابات الطغاة.