بخوفك لا تحتضني - محمد جلال قضيماتي

أبي.!
كيف نبصر في الماء وجهَ الدخيلِ
ونشرب منهُ
ولا يقتل الماء أحلامَنا المشرعاتْ؟
أبي.!
كيف نلمح في الترب آثار خطو الغزاةِ
ولا تنفضُ الأرضُ عنها
غبارَ خطاهم
ولا يمْحَل الزرع فيها
فنجني المواسمَ آناً فآناً
وغلاّتنا في مهاوي الشتاتْ؟
أبي.!
كيف نستاف ريح الشمالِ
وريح الجنوبِ
ومن غربنا البحرُ يمنع عنا الرياح
إذا ما تهبّ علينا
ولا يمنع البحر عنا الحياةَ
وقد أرهقتْها جميع الجهاتْ؟
أبي.!
كيف نعتصر القلبَ
حباً
وشوقاً
ولا نسكن الحلم إلا لماماً
إذا صاغه الليل في لحظةٍ
كان فيها يوائمُ
بين الطغاةِ
وبين الجناةْ؟
أبي.!
كيف نزرع قمحاً ونخلاً
ونجني غلالاً سوانا أتاها
فألفى لديها نعيمَ الحياةْ؟
أبي.!
هل نسينا التوسُّمَ
أم هل كفانا من العيشِ
أن نستعين عليهِ
بصبرٍ
وصومٍ
ونجوى صلاةْ؟
أبي.!
هذه الأرض خلفَ المسافاتِ
كانت
وما زال فيها
رفوف من الطير تعلو.. وتدنو
ولا شيء يمنع عنها السُّباتْ؟
أبي.!
فلمَ الآن بيني.. وبيني
وبيني.. وبينكَ
بيني.. وبين الدروبِ
دروبٌ
أراها ولا خيرَ فيها
سوى سعفة من نخيلٍ
وليمون بيارة انهكتْها العصافيرُ
إذ أصبحت في مداها صقوراً
تحوم على شرفة في الفلاةْ؟
أبي.!
ها هو الغيث يهمي سخياً
فهل سُبيَتْ قطرة الطلِّ
حين استقرت على الزهر
أم نفحة العطر ما زال فيها
أريجٌ
ينافح عن نشرها في الرفاتْ؟
أبي.!
كم سؤال.. ولستَ تُحيرُ جواباً
وبعض رموشك تحبس دمعاً
وبعض تثور عليها الأناةْ؟
فأبصرُ فيها الطريق إلينا
وأرسم فيها الرجوع إليها
كأن انتظاري وإياك منفى
يغرّبه الحرف فوق اللهاةْ؟
أبي.!
جاءني الحَيْنُ..
لا تنتظرني
سأرجع في أعين المعصراتْ
تُرى..
هل يسافر في الغيب طفلي
وما زلت أحلم أن الطريق رجوعٌ
وأن الرجوع انتظارُ مآبٍ
تعرّى عن الشفق الجهمِ
ثم استقر بحضن المدى؟
ترى..
هل تهالَكَ في الظنِّ
حتى تشبث بالماء
يزرع فيه الحصاد
فيجني لديه رِقاقَ الصدا؟
ترى..
أيّ نبتٍ سقاه التراب من الأرضِ
ما أينع الشوكَ
واستنبت الورد من عروة الصخر
فاتحد الماء بالرملِ
يهصر حلم الصقيعِ
على القيظ إذا أُجْهِدا؟
ترى..
هل ترفُّ المواسم إن شح فيها النضارُ
وأغرقها السيل بالغمر
أم تبلغ الشأو دون انتظارٍ
وتنهار عنها السنابل
تحمل منها حفيف الصدى؟
ترى..
كيف تجهش فينا الجروحُ
وأحلامنا من جراح الزمانِ
تعطِّلُ منها الدماء المدى؟
ترى..
أي حلم يراوده اليومَ
والنار دون الهسيسِ
تسعِّر أمداءه بالندى؟
ترى..
وهزار المسافات ينأى
بأسراب رؤياه عن (درة) الحلمِ
إنْ أسرج الحلمَ
وارتاح يعبر جسر الردى
ترى..
يكبر الطفل بالتوق
إن أرهف الشوق رؤياه
فانهلَّ كالنسغ
يحيي الترابَ
بغيث الهدى؟
ترى..
كيف أسأله السرَّ
والسر دربانِ:
درب مسافاته الخلد إمّا تجلّى
ودرب مفاتيحه الموت إن أُوصِدا؟
طريقان ليسا لمن سبقوهُ
ولكنْ...
لكل مريدٍ دعَتْه الشهادة فاستُشهِدا
أبي..!
ها هي النار تحصدنا كالهشيمِ
ونحن الضحية.. والجلجلهْ
أبي..!
كم هَصَرْنا من السلم غصناً
فما أورق الغصن إلا دماءً
ففاءت بزيتونه السنبلهْ؟
أبي.!
أنا طفل الحجارة
هل أرهقَتْنا الحصاةُ
فكان الشواظ سعيراً
وكانت ينابيعه القنبلهْ؟
أبي.!
ها هي الأرض غضْبَى
أهذا الأوان
ترى أم سنكبر جرحاً
سينزف أيامنا المقبلهْ؟
أبي.!
ها هم الآن غدر ونارٌ
يمرون كالنقع قربي وقربكَ
لا تحتضنّي بخوفكَ
لا تحتضنّي بحبك
أو فاحتضني
لعلي أخبّىء تحت إهابي
براكين عمرٍ
يفجّر أحلامه المهمَلهْ
أبي.!
لا أخاف الجحيمَ
ولكنّ حقد الرصاص أُهيلَ علينا
فما أعذب الموتَ..
ما أنبلهْ
أبي..
يــ... ـــا أبي....
يــ....ـــــا أبي...!!
نزف الدَّمُ
فانهار طفلي
وها هو بين يدي صريعٌ
يغنّي
أبي..
قُدِّس الموتُ
لا تحتضنّي
ودعني وإياهُ
كي أنهلَهْ
لعلي أعود بثوب الشهيدِ
أنافح بالذكْرِ.. والمقصلهْ