الجدار - محمد جمال طحان

اهربْ
احملْ نايك واهرب
احمل صرختَك الأولى
هذيانك
واهرب
جوعٌ تابَعَكَ عبر سنينِ الغربةِ في الوطنِ المجهولْ
جوعٌ سيُلاحقُكَ من أخمصِ رأسك للقدمينْ
اهرب
* * * *
صوتٌ يصرخُ بي أنْ : أهربْ
لا تفتحْ بابَ العري وتقفزْ نحو الشمسِ
أمانيكَ سوف تلاحَق
يعبثُ فيها الجراد
ثُمَّ تُكوَّمُ مثل الورق لأصفر
ثم سترمى
كالشيء التالفِ للتصنيع
ويزفّتُ فيكَ الشارعُ
لتدوسَ كرامتك الأقدامْ
جرادٌ يلفّ الأماني
جرادٌ يعبيء كلَّ النوافذِ
فاهربْ
اهربْ
أوقفْ مدَّ نزيفَ الوجعِ الكونيّ ـ الوعي
واهربْ
* * *
سيزيفُ ..!
ليس إلهاً من يحكم أنكّ شرير
بل شيطان
وزيفٌ كلّ التفكير أمام العقل ـ الحائطِ .. والمنبرّْ
* * * *
يُفتحُ بابُ الحلمِ
أنقاضٌ متلاصقةٌ
أحجارٌ تصنعُ جدارناً
وتطبقُ نحوي كي أختنقَ
أو .. كي يقتلني الهذيانُ
حجرٌ
ربٌّ
أبٌّ
سُلطةْ
يطلبْ منا أن نعبدَهُ
كي يطعمنا
حجرٌ يتأنَّقُ بالنظّارةِ
يحملُ قلماً وهمياً لا ينزفُ
يحملُ غصناً منبسطاً .. وجّالاً من زيتون
يمدّهُ نحوي فأرتجفُ
اصطفّوا ..اصطفّوا
يصرخُ بي
فأرتّب نفسي
أقلّمَ ظفرَ لغتي الشرسة
وأحزمُ أفكاري بربطة عنقٍ مستوردةٍ أتقنّاها
وأساقُ إلى مقصلةٍ
من بابٍ كتبَ عليه اسم شهيدْ
* * *
أجلسُ خلفَ المقعدْ
يبتسمُ الجالسُ قربَ السبوّرة
وأنا أقطَّع أقساماً متساويةً
ويزَيَّن بي سوار حذاءْ
حجرٌ يتحركُ
يلاصقُ كتفَ الحجر الأوّل
ألمس فتحتهُ
فيفرز أحجاراً أخرى .وصغيرة
تسدّ الثغرات
حجرٌ فوق الحجر اوّل
تحت الحجر الثاني حجرٌ
أنقاض تتراكم
وترتفعُ حولي الجدران
أسمعُ صوتاً :
ـ اهربْ
ـ هذا وطني لا يكذبُ
ـ اهربْ
ـ هذا أبي
ومعلمتي
وامرأتي
وأبنائي
ـ اهربْ
* * *
جدرانٌ تتلاصقُ حوالي
شيء يخرج من رأسي
يتناثرُ
يرتفعُ
يكوّن سقفاً من أحجار
وأغوصٌ بكوم الطين
بردٌ يجلدني وسياط
جوعٌ يحفر في أعماقي
أحذيةٌ تتسابقُ .. ترجمُني
أسمعُ أصواتاً متلاحقةً :
ـ اهربْ
ـ خائنْ
ـ خائن
ـ اهرب
جبنٌ يصلبني
ـ اهرب
ـ خائن
أكوّمُ كفّيْ .. أغمضُ عينيَّ
وأجمعُ كلَّ قواي من الداخلِ
أصرخُ وأنا أضربُ بالقبضةِ وجهَ الحائط :
-وطني
حاولتُ أمزّقُ كلّ ملفّات الحرمان
لتبقى صورةَ حبيّ أنت
وتقّيأت دماً
وأنا أكبتُ نفسي
حتّى أنسى زماني الضائع فيك
أتجاهل موتي العائشَ فيك
وطني
يا من كنتُ ألا حقُ نفسي كي أبنيه
حاولتُ رفعَك للأعلى
فسقطتُ أنا
وطني بناهُ بنوهُ
فترنحَّ فوقَ بنيهِ ...
وماتوا ...
* * *
صوتٌ يصرخُ في أعماق :
ـ اهربْ ..اهربْ
-وطني
ـ اهربْ
- أهلي
ـ اهرب
-لغتي
ـ اهرب
-وأبي ..أمي ..وأفراحي ...
اهربْ يا ابن الكلبْ ..اهربْ
* * *
وهممتُ بأن أمشي
هممتُ بأن أمشي
عزمتُ ...
وقررتُ ...
وصفعتُ تردّدَ خطوي
وخطوتُ لكي أمشي
فتفجَّرتُ
من قنبلةٍ وضعتْ للأعداء
* * *
أفقتُ
يُغَلقُ بابُ الحلمِ
وكان المتفّق عليه بأن أفرحْ
ذهبَ الكابوس
لكنَّ الحلمَ تبسَّمَ منسحباً : واجه
فالذئبُ ـ الوالدُ ، أوصمتي
يصرخُ في وجهي : يا فاشل
وامرأتي ـ الجدّة ـ آنستي
تمدُّ ملايين الأيدي: يا عاطل
والطفل يمدُّ لساناً حلواً لل بابا
والباقي ... :
أفتحُ بابَ كتابٍ يجلدني البوّابْ
والطلقةُ ترقدُ في المذياعْ
القلمُ جفيفُ الحبرِ
والورقُ الأبيضُ ممنوع
* * *
ذهبَ الأمرَ
كُسِرتْ نظارتُهُ
وبقيتْ أغصانُ الزيتونِ الباهتِ تجلدني
وبقيتُ أصيحُ كذئبٍ أخرس
وظلَّ الصوتُ الصادقُ يصرخُ :
ـ اهربْ
يا ابن ال ...
اهربْ
اهربْ
* * *
* * *
ذهبَ الأمرُ
من علّمنا كلّ شؤون الفَلك..
البحر .. البريّة
وتناسى دروس الحريّة
****