سُبحانَه - محمد موفق وهبه

بُنَيَّ عِندما تَميلُ الشَّمسُ لِلمغيبْ
لتخمدَ اللهيبْ
ساحِبَةً مِنْ خَلفِها مِئزَرَها ورداً وجُلّنارْ
غامِسَةً خَدّاً وَخُصلَةً مِنَ الأَشعارْ
في بركَةِ البِلَّورِ وَالنُّضارْ
يَكونُ قَد وَدَّعَنا النَّهارْ
وَلَم تَعُدْ عَساكِرُ المَسا وَلا أَفراسُها تُطيقُ الانتِظارْ
فَيومِئُ اللَّيلُ لَها بغمزةٍ من عينه الكحلاءْ
وباعُهُ يشيرُ للأمامْ
فتستجيبْ..
وتبدأُ الزحفَ العجيبْ
فتعبرُ الدروبْ
مسرعةً لتملأ السهول والآكامْ
وكلَّ أرضٍ في المدى الرحيبْ
وتستقِلُّ هَضبَةَ الأُفْقِ إلى السَّماءْ
مُثيرَةً نَقعَ الظَّلامْ
تَدوسُ بِالسَّنابِكِ السَّوداءْ
كنوزَ ما خَلَّفَهُ المغيبْ
من فِضَّةِ النهارِ والنّضارْ
سُبحانَ رَبّي الخالقِ الجليلْ..!
مُصَوّرِِ الفِتنَةِ في كوكَبِنا الجَميلْ
قَد كُنتُ هَهُنا بُعَيدَ الفَجْرْ
فغَرَّقَتْ نفسي ببحرِ السّحرْ
حينَ صَحا الدُّورِيُّ وَالحَسّونُ وَالكَنارْ
قُبَيلَ أنْ يستيقظَ النهارْ
إذ فاحَتِ الأَزهارْ
وامتَزَجَت سَقسَقَةُ الطُّيورِ بالألوانِ والعُطورْ
وحرّكَتْ أوتارَ نفسي، أيقظتْ مكامِنَ الشّعورْ
وحينما تسلّقَ الضَّوءُ عَلى الأَسوارْ
حَوَّمتُ مَعْ شُعاعِهِ أَجولْ
أَسيحُ بِالعَينَينِ فَوقَ خُضرَةِ الغِلالِ في الحُقولْ
وَعُدتُ عِندَ مَوعِدِ الأَصيلْ
فَسَبَّحَ الفُؤادُ مِن عَجَبْ
فَكُلُّ ما أراهُ من كَثَبْ
حُورٌ من النخيلْ
أسكرها الطّرَبْ
تعانقت سعفاتها مع الهوا العليلْ
فشرعت في غُنجها تميلْ
بينَ بناتِ التينِ والمَوزِ وغِلمانِ العِنَبْ
وفي المَدى سنابلُ الحنطةِ في المُروجْ
لو خطرَ النسيم في أنحائها تموجْ
بَحراً مِنَ الياقوتِ وَالزُّمُرُّدِ الأَخضَرِ وَالذَّهَبْ
وَها أَنا أعودْ
لنَفسِ مَوضِعي أُناجي اللّيلَ هَذا الزّائِرَ العَتيدْ
أجلسُ فوقَ مقعد الحنينِ والشّرودْ
إذْ كلَّ يوم عندما يقترب المساءْ
أكونُ بانتظاره بفارغِ الصّبرِ إلى اللقاءْ
يَأتي إِلَينا بَعدَما تَرحَلُ عَن حَاراتِنا الظِّلالْ
ويختفي تبرُّجُ الجمالْ
وتشرعُ الطيورُ بالأفولْ
من الحقولْ
تأوي إلى أعشاشِها سعيدةً بِطانْ
ويعتري التّجهّمُ الأشياءْ
تبدو لرائيها دُمىً في البُعدِ أو طلولْ
إذ فرّتِ النّضرَةُ والبهاءْ
منها مع الضياءْ
أَرقُبُهُ وَهوَ يسيرُ هابِطاً نَحوي مِنَ التِّلالِ وَالجِبالْ
يَسوقُ آلافاً وَآلافاً مِنَ البِغالِ وَالجِمالْ
قافِلَةً لا تَنتَهي.. مَحمولَةً بِالكُحلِ وَالعَنبَرْ
وحَولَهُ العَبيدُ وَالعَسكَرْ
يَعلونَ كُلَّ أَدهَمٍ أو أشهبٍ من جامحِ الجيادْ
ويَسفحونَ أَينَما ساروا قَواريراً مِنَ المِدادْ
وَيَرشُقونَ ما تَبَقّى مِن فُلولِ الضَّوءِ بِالسَّوادْ
وَعِندَما يَعبُرُ نَحوَ بَيتِنا الغَديرَ والبستانْ
يَصعَدُ فَوقَ السّورِ والجُدرانْ
مُلتحِفاً مُلاءَةً سَوداءْ
تسطعُ في مخملها الحُلِيُّ منْ زُمُرّدٍ وماسِ
فَإن دَنا الفجرُ ولاحَ موكِبُ الضِّياءْ
فَرَّت مِنَ الحَياءْ
كَأَنَّها الظِّباءْ
لاذَت إِلى الكِناسِ
أَهلاً بِهَذا القادِمِ الباقي عَلى العُهودْ
نَعرِفُهُ.. يَعرِفُنا.. مِن زَمَنٍ بَعيدْ
أَنا وَأَقراني وَجيرانيَ من أحبابِهِ
وَكُلُّ أَهلِ حارَتي عُشّاقُهُ
أَحبِبْ بِهِ مِن زائِرٍ أجملُ ما عنديَ أن أُعنى بهِ
أَوَدُّهُ أَشتاقُهُ
يُطرِبُني مَجيئُهُ.. تجتاحني الهمومُ في غيابِهِ
وحينما يُسْبِلُ أحداقي النعاسُ، مِنْ عًلٍ ترمقني أحداقُهُ
يفرشُ لي جلبابَهُ.. ما أهنأَ النومَ على جلبابِهِ..!
بُنَيَّ.. إِنْ أَبصَرتَ ما يُحَيِّرُ العُقولْ
وَيَفتنُ الأَرواحَ وَالقُلوبْ
فَسَبِّحَنْ خالقَنا الجليلْ
في اللّيلِ وَالنَّهارِ.. في الشُّروقِ وَالغُروبْ
إذ نحن بعض خلقهِ العجيبْ
سلالةٌ من طينْ
عجينةٌ يدعونها صَلْصالا
سبحانَ من أبدعنا من ذلك العجينْ
سُبحانَهُ في كُلِّ حينْ
سُبحانَهُ... تَعالى
.
2001
*العتيد: العاتي: القوي الجبار
* أكون بانتظاره: أي بانتظار الليل