الرحلة الأخيرة - محمد موفق وهبه

وَعُدْتُ أدْرَاجيَ مِنْ حَيْثُ أتيْتُ عُدْتُ لِلسَّفرْ
وَسَاقنِي حَظِّي إلى الخطرْ
دَخلتُ غارَ السَّارقِينَ الأرْبَعينْ
لم أصطحب إليه من يؤنس أو يُعينْ
ذاكَ الذي دَخلهُ قبلي (عَلِي بابا) وَعَادْ
أغنى مِنَ التجَّارْ
أغنى مِنَ السُّلطانِ فِي بَغدادْ
وَكانَ قبلَ ذا فَقيراً مُعدِماً لا يَعْرفُ الدِّينارْ
مَلأتُ أكياسَ الحَطبْ
بِالماسِ بالجُمَانِ باللآلئِ المَنظومَهْ
بالجَوْهرِ الثمينِ بالحِجَارَةِ الكريمَهْ
بِكُلِّ ما استَطَعتُ حَملَهُ مِنَ الذهبْ
جَمَعْتُ ما أهوى مِنَ الحُلِيّ وَالدُّرَرْ
لمْ أنسَ همِّي لحْظةً مَا اسْطاعَ أنْ يَغلِبَنِي الطرَبْ
لمْ أنسَ [سمسماً] كمَا نسِيَها شَقيقُهُ المِسْكينْ
فغفلةُ النسيانِ من ورائها المنونْ
لَكِنَّهُ القَدَرْ
إذ لَيسَ يُجدي حينَ يأتي الحِرصُ وَالحَذَرْ
فلمْ يكدْ يخلو مِن اِسمِ [سمسمٍ] مكانْ
كَتَبَهُ اللصوصُ فوق الأرض فوق السقف والجدرانْ
يا ليتني قبلَ دخول الغار قد رجعْتُ
أَدرَكتُ حينَ ذاكَ أَنَّني وَقَعْتُ
ولم يعد هَمّي سِوى النَّجاة مِن بَراثِنِ الخَطَرْ
وَ تهْتُ فِي دِهْليزهِ الطويلِ أَياماً كثيرَهْ
لأنني نسيتُ أيْنَ البَابْ
نسيتُ أيَّ صَخرَةٍ تفتحُ إنْ ناديتُ: سِمْسِمْ
شحذتُ ذهني جلتُ في ذاكرتي الفقيرهْ
لكنني لم أحظَ بالجوابْ
وكنت كلما مشيت خطوةً أتمتمْ:
سمسم.. سمسم..
فربما أكون قربَ البابْ
وينتهي العذابْ
وتكتبُ النجاةُ للأسيرْ
أنهَكنِي المَسيرْ
أصابَني الإعياءُ كلّت هِمّتي الطَّموحْ
تَوَرَّمَت رِجلايَ سِرتُ حافِياً تَلسَعُني القُروحُ وَالجُروحْ
ولم أعدْ أسطيعُ أن أغدوَ أو أروحْ
تراختِ الآمالُ صار كل بارقٍ لدَيّ مُظلِمْ
إذ لم يعدْ يُجدي نداءُ سمسمْ
رَمَيْتُ مَا جَمَعْتهُ جلست أستريحْ
ورحتُ أنعي طمعي الجَموحْ
وفجأةً أصابني الخَوَرْ
وزاغَ مني القلبُ والبصَرْ
أحسَستُ أنَّ الغارَ وَالأحجارَ مِن حَولي تَدورْ
والأرضَ من تحتي تغورْ
وَقَعتُ مَغشِيّاً عَلَيَّ فاقِدَ الإحساسِ والشُّعورْ
أسيحُ في عوالمِ الأحلام والأشباحْ
فكل ما تراه عينايَ صُوَرْ
تلوح لي خلفَ زجاجِ الغيمِ والعَكَرْ
تخفقُ كالوشاحْ
إن هبّت الرياحْ
وَاجتمَعَ اللصُوصُ حَولِي يَنفثونَ الحِقدَ وَالغضَبْ
سُيوفهُمْ مُصْلتةٌ ألسِنةً مِنَ اللهَبْ
أحداقُهُم تَقدَحُ بِالشَّرَرْ
أَفواهُهُم مُزبِدَةٌ غَيظاً يُصِمُّ الغارَ بِالصِّياحْ
ويلطمُ الأحجارَ بالعُواءِ والرُّغاءِ والزئيرْ
قالَ لهُمْ رَئيسُهُمْ: لا تقتلوهْ
عَذابُهُ أنْ تترُكوهْ
عَرّوهُ جَرِّدوهْ
مِنْ كلِّ مَا سَلبَهُ مِنْ غارنا ثمَّ اطرَحوهْ
وراءَ بابِ الغار للوُحوشِِ لِلكِلابْ
دَعوهُ لِلهَلاكِ ليسَ فيهْ
خَرْدَلةٌ مِنْ قُوَّةٍ تُنْجيهْ
أَو رَمَقٌ يُبْقيهِ لِلإيابْ
ليس له رفيقْ
وليسَ في هذي البِقاعِ غَيرُنا من يَعرِفُ الطَريقْ
خرَجْتُ مِنْ غارِ اللصُوصِ جَائِعاً عَطشَانْ
مُحطّمَ الآمال مسلوبَ القوى مُشتتَ الجَنانْ
أهيمُ في الجبَالِ وَالوُدْيانْ
لا مَاءَ لا زادَ سوى ما جادتِ الغبراءُ والسماءْ
مشاركاً في عَيشيَ الهَوامْ
أكلتُ مَا يأكلهُ الجَرَادُ وَالديدَانْ
شَربْتُ مَا تعَافهُ الخيولُ وَالأغنامْ
وَكَم وَكَم غَلَبَني النعاسُ في العَراءْ..!
وَنمْتُ فوْقَ الحَوْرِ وَالصَّفصَافْ
فِراشِيَ الغصونُ وَالعيدانْ
وَقُبَّةُ السَّمَاءِ لِي لِحَافْ
سُمَّاريَ النَّقيقُ والنُّباحُ وَالعواءْ
ندمَانِيَ الذئابُ والضِّباعُ وَالأشباحُ وَالظلامْ
وَقينتي الَّتي تُغَنِّي بُومْ
يَلُفُّني الدُّجى بِثوبٍ مِلؤُهُ البَعوضُ والجنادِبْ
وكلُّ مخلوق له الدماء والأديمْ
قوتٌ.. ولا يعدله ألَذّ ما في الكون من أطايِبْ
وكلُّ مخلوق جبانْ
ينام في النهار خوفاً ويرى الظلام للمكاسبْ
وَمِن ورا السديمْ
من قبة السماء من شُرْفاتها المشرعة الأبوابْ
تَرمقني النُّجومْ
تَغمِزُني الألوفُ مِن عُيونِها الكحيلة الأهدابْ
عيونِها الحوراءِ والزرقاءِ والخَضراءْ
وَقَد يَزورُ مَسكَني القَمَرْ
يَقفِزُ مَن شُبّاكَهِ الفِضِّيِّ نَحوي دونَما استِئذانْ
يَطبَعُ فَوقَ وَجنَتَيَّ قُبلَتَي حَنانْ
وَقَد يَمُرُّ شارِداً يَرمقُني بِمُقلَتَينِ ضَلَّتا
بَينَ الشِّعابِ تاهَتا
أَضناهُما السَّهَرْ
وَقَد يَبُشُّ وَجهُهُ بِبَسمَةٍ يرسلها مِن ثَغرِهِ الفَتّانْ
يومي بِها إِلَيَّ مِن عَليائِهِ حيناً بُعَيدَ ساعَةِ الغُروبْ
أَو قَبلَ أَن أَنامَ في السَّحَرْ
كأَنَّهُ يَقولُ: " نَمْ يا أيها الحيرانْ
كَيفَ..؟! وَهَل تسطيعُ أن تَنامْ..؟
أرجو لكَ السّلامْ "
وَبَعْدَ أعْوَامٍ مِنَ المَسيرْ
عَبْرَ صَحَاري البؤس وَالشَّقاءْ
مُحمّلاً بالألم المريرْ
وَصَلتُ كوخِيَ الأثيرْ
ذاكَ الذي ترَكتُهُ فِي أوَّلِ الشَّبابْ
كأننا لمْ نفترقْ فلمْ نكن أغرابْ
وَهَل تَهونُ عِشرَةٌ جذورُها القلوبْ..؟!
عَانقتهُ.. أضُمُّ منه البَابَ وَالجُدْرَانْ
وَألثمُ الأحْجَارَ وَالترابْ
رَمَيْتُ عَنْ كِتفيَّ أحْمَالَ الهُمُومْ
مَدَّدْتُ جسْمِي تحْتَ ليْمُونتِهِ الرَّؤومْ
تنضحني بعطرها نسائمُ الصباحْ
أقرأ في الخيال صفحات من المكتوبْ
وَأحْمَدُ اللهَ عَلى القِسْمَةِ وَالنَّصيبْ
وأغمض العينين بارتياحْ
.
1997
* في (ألف ليلة وليلة) دخل شقيق (علي بابا) الغار ولم يستطع الخروج منه لأنه نسي كلمة السر (سمسم)