النجوى الخامسة - محمد موفق وهبه

قَد يَفعَلُ اللِّسانُ ما لا يَفعَلُ السِّحرُ العَظيمْ
فَيُخْرِجُ الأفعى مِنَ الوَكرِ المَنيعْ
لَيِّنَةً طَيِّعَةً خالِصَةً مِن طَبعِها اللَّئيمْ
كَذلِكَ السُّلطانُ شَهرَيارْ
حَوَّلهُ سِحْرُ الحَديثِ حَمَلا وَديعْ
بَينَ يَدَيكِ صَارَ هَذا الذئبُ كالهرِّ الأليفْ
حَرَّكتِ فيهِ الوَتَرَ الحَسّاسَ مِنْ قيثارَةِ الإنسانْ
جَرَّدتِهِ مِن ثَوبِهِ المُزَيَّفِ المُخيفْ
رَمَيتِ عَنْ كِتْفَيهِ جِلدَ الغولْ
يا شَهرَزادْ
قد تورِقُ الشُّجيرَةُ المَحروقَةُ اليابِسَةُ الأَغصانْ
وَيَمرَحُ الحُبورُ في الصَّحراءْ
ويرقصُ البَهاءُ في الهَشيمِ حينَ يُقبِلُ الرَّبيعْ
كَذلِكَ السُّلطانُ شَهرَيارْ
لَم تَحتَرِق جُذورُهُ جَميعُها بِنَزوَةِ الشَّيطانْ
أَرجَعتِهِ لِلفطرَةِ النَّقيَّةِ البَيضاءْ
فاخضَلَّتِ الأَشواكُ عادت نبتةً خضراءْ
وَعادَ للطبعِ السَّليمْ
كَما أرادَ الخالِقُ العَظيمْ
لو كُنتِ شهرزادُ تسمعينني أُحَلِّفُُ النَّسيمْ
أَن يَحمِلَ الأشواقَ منْ فُؤادِيَ الكليمْ
رسالَةً كتَبتُها بأدمُعي
لكنتِ تعذُرينْ
كَيفَ يَهيضُ جُنحُهُ السقيمْ
من حَرِّها
ويشربُ الظّلامُ والنُّجومْ
من خمرِها
لَوكُنتِ شَهرَزادُ تَسمَعينْ
لبعضِ ما أبثّه من الجوى المقيمْ
في أضلعي، لو كنتِ تسمعينْ
معزوفةَ الحَنينْ
تُحَرِّقُ الأكباد في الصخورْ
أهاتُها
وتُشعِل الأنهار والبحورْ
أَنّاتُها
لرَقّ لي فؤادُكِ الرحيمْ
لوْ كنتِ تسْمَعينْ
لوْ كنتِ تعْطفينَ يَا سُلطانةَ الليَالِي
لوْ تهَبينَ قلبيَ الحيرانْ
بَعْضًا مِنَ الرَّأفةِ وَالحَنانْ
أوْ يَأذنُ السُّلطانْ
يَوْمًا بأنْ أكونَ مِنْ نَدْمَاِنهِ
فِي ليلةٍ حَنتْ إلى الندْمَانْ
لأفرَغ الفؤادُ بَعْضَ سِرِّهِ المَكنونْ
ياشَهرَزادْ
قدْ يَسْمَعُ السُّلطانُ قِصَّتي بأُذْنِ الوُدّ والوجدانْ
قَد يَسمَعُ السّلطانُ قِصَّتي بِأُذْنِ طَبعِهِ السَّليمْ
بِأُذنِ مَن عادَ إلى فِطرَتِهِ: إنسانْ
لكِنَّ قلبي يَكرَهُ الزُّلفى إلى السلطانْ
ياشَهرَزادْ
حَكيْتِ للسُّلطانِ مَا يَجيءُ بعدَ الحُبِّ مِنْ هَجْرٍ وَمنْ وصَالْ
وَمَا يَجولُ فِي ثناياهُ مِنَ الهُمومِ وَالآمالْ
أخرَجْتِ مِنْ بِحارِها جواهِرَ الحياهْ
وَكلَّ أنوَاعِ المَحَارْ
أرَيتِهِ جَميعَ مَا فِي هَذهِ الدُّنيا مِنَ الحِكمَةِ وَالضَّلالْ
وَبَعْدَ أنْ ظلَّ السِّنينَ مُغْمَضَ الفؤادِ لا يُعينُهُ الإبصارْ
رَأى بِعَيْنَي قلبِهِ مَا لمْ يَكنْ يَرَاهْ
يا شَهرَزادْ
كلُّ الحِكايَاتِ التي حَكيتِها عَجيبَةْ
لكنَّ قصَّتِي وَبَعْدَ ألفِ ليْلةٍ وَليْلهْ
مِنْ عَصْركِ المَشْدوهِ بالحَوَادِثِ الغريبَةْ
أعْجَبُ مِنْ كلِّ الحِكايَاتِ التي أصغى إِلَيها شَهْرَيَارْ
وَقدْ تعِبْتُ وَأنا أزْحَفُ فِي الدُّروبْ
أَجولُ في مَهامِهٍ لا تَنتَهي لا أُدرِكُ الآمالْ
أَبحَثُ في الواحاتِ عَن عَينٍ-
يُنَدّي ماؤها العُروقَ وَالحُروقْ
تَرُدُّ عَن حَلقي لَهيبَ الظَّمَأِ المَشبوبْ
أَبحَثُ عَن شُجَيرَةٍ حَنونَةِ الظّلالْ
أقيلُ تَحتَها هُنَيهَةً، تُجيرُني، تجيرُ ظِلِّيَ الطَّريدْ
وعمريَ الشريدْ
من قيظِ هذا العالمِ الحقودْ
أَبحَثُ عَن صَدرٍ رَؤومْ
يَحضنني، أَهوي إِلَيهِ لائذاً مِن وَحشَةِ الضَّياعْ
أبْحَثُ عَنْ رَفيقْ
يُؤْنِسُني..
يُشرِكُني في كلّ ما يُهِمُّني
يُزيحُ عنْ نفسيَ بعضَ مَا بِها منْ شَجَنِ
لعلَّها تُفيقْ
وَيَبسِمُ الفَجرُ عَلى أَهدابِها الوَسنى فَلا تَعبسُ للشّروقْ
يمسحُ عنْ عَيْنَيَّ بعضَ أَدمُعي
عنْ وجْهِي الشُّحوبَ والوُجومْ
يُفْرِغُ مِنْ فؤاديَ الكَليمْ
بعضَ الَّذي يَملأُهُ مِن حُزنِهِ القَديمْ
يَحْمِلُ عَنِّي بَعْضَ مَا أنقضَ ظهْري -
حَطّمَ الكِتْفَينِ مِنْ هُمومْ
فرُبَّما يَهونُ في رِفْقَتِهِ السَّفَرْ
ويختفي الكلالُ والضَّجَرْ
وَيَنجَلي لِعَينِيَ الطَّريقْ
يَا شَهْرَزَادْ