كسار الزبادي - محمد موفق وهبه

أودّ يا صديقْ
لو مرّةً أحلف للصغارِ في كل مكانٍ وزمانْ
أنّ قلوبَ الشّعرا مجبولةٌ من طينة الودادِ والحنانْ
وأن من يحظى بإحداها يكنْ إنسانْ
خِلواً من الأضغانْ
وأنّ قلبي لم يكن يوماً من الأيام لا شيخاً ولا كهلا
أفنيتُ عمري معهُ ولم يزل في أضلعي طفلا
اليَوْمَ يَا صَدِيقْ
تهدَّمَ السِّجْنُ الكبيرْ
وَانهَارَتِ الأسْوَارْ
وَطارَ مِنْ وَرَائِها فؤادِيَ الأسِيرْ
حَرّرَ جانحَيهِ من قيدِ الوَقارْ
مُنطَلِقاً إلى رياض الروحِ والجَنانْ
مخلفاً وراءَه زنزَانةَ الأحْزَانْ
اليَوْمَ يَا صَدِيقْ
أحسَسْتُ أنيِّ لمْ أزَلْ طِفلاً وَ قلبي لمْ يَزَلْ صَغيرْ
وأنَّ مَا ألبَسَنِي الدَّهْرُ مِنَ العُبُوسِ وَالذهُولِ والنُّفورْ
كِذبٌ وَزورْ
آهٍ صَديقَ غُربَتي الأثيرْ
لَوْ كُنتَ تعْرفُ الذي صيَّرنِي فِي لحْظةٍ غريرْ
وَاقتلعَ الهُمومَ مِنْ حَدِيقةِ الفؤادِ
لكِنْ وَ يَالَلأسَفِ الشَّديدِ يَا صَديقْ
لا تعرفُ الأطفالَ فِي بلادِي
وَلمْ تزرْ دِمَشْقَ لمْ تلعَبْ معَ الأولادِ
ولم تشاهد شهبَ البريقْ
تلمعُ في أحْداقِهمْ وَهُمْ عَلى الطريقْ
يجرون يلعبون أسراباً من الطيورْ
يُطاردونَ ذلكَ (الريشَ) الحَبيبْ
بلْ ذَلِكَ المُجَنَّحَ العَجيبْ
ذاكَ الذِي رَأيتهُ اليَومَ ببابِ غُرفتِي يَدورْ
كأنَّه قدْ جَاءَنِي يَزورْ
فرَدَّ لِي طفولتِي البَعيدَهْ
أيْقظنِي.. أيْقظَ أَحْلامِي البديدَهْ
أَيقَظَ أَيّامِيَ مِنْ سُباتِها العَميقْ
وَرَدَّنِي فِي لحْظةٍ مِن بَرْدِ هَذا العُمُرِ المَريرْ
طِفلا غَريرْ
أرْكبُ ألفَ جَانِحٍ مِنْ بَهْجَتِي أريدُ أنْ أطيرْ
أريدُ أنْ ألعَبَ يَا للفرْحَةِ السَّعيدَهْ
وَفاضَ سَيلُ العَطفِ وَالحَنانِ وَالأشْواقْ
أرَدْتُ أنْ أهيبَ بالأطفالِ أن أنادي:
" أحبّتي شقائقَ الفؤادِ "
" ضَيفٌ أتى يَزورُنِي مِنْ غابرِ الأيَّامِ مِنْ بلادِي "
" هيّا نردَّ بعضَ ما يُكِنُّ للأطفالِ من ودادِ "
أردتُ أن أجْري وَيَجْروا خلفَ (كسَّارِ الزَّبَادِي)
لكنما أذهانهم كانت بغيرِ وادِ
كانوا يُغَرِّدونْ
يرددونْ
أُنشودَةَ الأَرضِ التي تَعشَقُها الأَرواحُ وَالقُلوبْ
تقلهم أجنحةُ الأشعارْ
وزورق الأوتارِ والمزمارْ
إلى فراديسَ من الحنينِ واللحنِ الطروبْ
ثم إلى نار الإباءِ والفِدا يُلهِبها اللحنُ الغضوبْ
كانوا يُصَفِّقونَ يُنشِدونَ يُرسِلونْ
تَحِيَّةَ الأَطفالِ مِن (وَهرانَ) في الجَزائِرِ الحَبيبَهْ
لأَهلِنا في أَرضِنا السَّليبَهْ
كانوا يُغَرِّدونَ حينَ جاءَ هَذا الزّائِرُ الحبيببْ
لم تنطلق من الشفاه صرخة البهجة والترحيبْ
لأَنَّهُ.. لِلقَدَرِ المَحتومْ
وَحَظّهِ المَشؤومْ
حينَ أَتى مَعَ الهَواءِ قافِزاً مِن كُوَّةِ الجِدارْ
لِيُدهِشَ الصِّغارْ
لَم يلحظوا خُطاهْ
إذ كانت العيون مع مواكب الأشعارْ
تجولُ في السطورِ لا تسطيعُ أن تراهْ
وَلمْ يُعِرْهُ أَحَدٌ أيَّ انتباهْ
لمْ يَلعَبِ البَريقُ فِي العيونِ لمْ ألحَظْ سَناهْ
لمْ تقفزِ القلوبُ مِن صُدورِها لمْ تنبَسِ الشِّفاهْ
وَراح ذاكَ الطائرُ الحَبيب منذ جاءْ
يبحثُ عن لهوٍ وأصدقاءْ
لا يعرف الهدوءَ لا يملّ الاِنتِقالْ
يدورُ في الأنحاءِ وَالأَرجاءْ
وتحْتَ كُلِّ مقعَدٍ يُداعِبُ الأَحذِيَةَ الصَّغيرَةْ
وَيَلثُمُ الأرْجُلَ فِي صَمْتٍ بِلا كَلالْ
فتنتشي أرياشهُ المسحورَهْ
وزغرَدَ الناقوسُ أنْ هيّا إلى مَلاعِبِ الصغارْ
تمَطتِ المَقاعِدُ الكسلى وطارْ
من كان فوقها من الأطيارْ
وثارت الصيحاتْ
وَلفَظَ البَابُ الضَّجيجَ يَسْبقُ الأطفالَ للسَّاحَاتْ
وَلمْ يَعُدْ فِي الغرْفةِ المَشْدوهَةِ المنزوعةِ الحَياةْ
سِوَى خيوطٍ ناعِسَاتٍ مِنْ أشِعَّةِ النهارْ
وذلكَ الضَّيفِ الذِي ماتَ بِلا اعتِبارْ
.
1970
يدعونه في دمشق (كسار الزبادي) والشاعر كان معلماً في الجزائر (عام 1964). ويصف كيف دخل (كسار الزبادي) إلى غرفة الصف.